الرواية الأولى

نروي لتعرف

خلاصة الأمر !! / الواثق كمير

بين الهدنة والتفاوض : أسئلة حول الهدف النهائي (endgame) لإنهاء الحرب في السودان

د. الواثق كمير

أثار الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة مباشر مساء الأحد 23 نوفمبر 2025 مع رئيس التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية في السودان، مبارك أردول، جملة من القضايا المترابطة المتعلقة ب: الهدنة الإنسانية والتفاوض وإعلان جدة.

وقد دفعتني تلك المداخلات إلى إعادة طرح أسئلة أساسية حول طبيعة المسارين السياسي والعسكري، والهدف النهائي الذي تتجه نحوه الأطراف المتحاربة.

اولا: الهدنة:
في جوهرها، تمثّل الهدنة الإنسانية وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار، يفتح الباب أمام وقف شامل ودائم. ولهذا، فإن الموقف من قبول الهدنة أو رفضها لا ينفصل عن رؤية كل طرف لـ الهدف النهائي (endgame) للعملية التفاوضية، وهو ما يجعل الهدنة خطوة سياسية بقدر ما هي إنسانية.

ثانيا: التفاوض

عادةً ما تُبنى العمليات التفاوضية على إعلان مبادئ يحدد الإطار العام للحل.
وعلى ذات المسار، فإن الجلوس إلى طاولة التفاوض يستلزم الاتفاق على إعلان مبادئ يحكم العملية التفاوضية ويكون مقبولاً من الأطراف المتحاربة.

ومن واقع تجربتنا خلال الحرب الاخيرة (1983-2005)، فإن أول وقف لإطلاق النار “الإنساني” وافقت عليه الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان مع حكومة المؤتمر الوطني كان في يونيو 1998، وامتد ثلاثة أشهر في بحر الغزال بهدف إغاثة المجاعة في إطار عمليات “شريان الحياة – OLS”.
لكن هذا الاتفاق لم يكن ليتم لولا موافقة الحكومة على إعلان مبادئ الإيقاد؛ ذلك الإعلان الذي رفضته حين طرحته المنظمة في 1994، ثم قبلت به لاحقًا في أواخر عام 1997.

وكان إعلان مبادئ الإيقاد بمثابة تصور أولي أو كروكي للـ endgame السياسي، أو الهدف النهائي المتوقع من الهدنة المؤقتة التي تقود لاحقًا إلى وقف دائم لإطلاق النار.

وهذا ما جرى فعلاً. فالإسكات المؤقت للبنادق فتح الطريق أمام عملية تفاوضية امتدت لأربع سنوات، تطوّرت في بروتوكول مشاكوس يوليو 2002، ثم أعقبها:

  • اتفاق وقف إطلاق النار الدائم لجبال النوبة (يناير 2002)،
  • واتفاق وقف الأعمال العدائية الشامل Cessation of Hostilities في أكتوبر 2002،
    وهو ما مهّد لاحقًا لاتفاقية السلام الشامل CPA 2005.

ويُذكّر هذا التسلسل بأن عملية التفاوض حينها كانت بين الحركة الشعبية/الجيش الشعبي والحكومة فقط، بينما لم يشارك التجمع الوطني الديمقراطي في التفاوض إلا بعد توقيع الاتفاق النهائي (القاهرة، يونيو 2005).

اليوم، ومع قبول مبارك أردول بفكرة المسارين—العسكري/الأمني والسياسي—تطرح الأسئلة نفسها من جديد:
من هي الجهة التي يمكن أن تُطلق إعلان مبادئ جديدًا؟ وما الأساس الذي سيُبنى عليه؟
هل سيكون على نموذج “اقتسام السلطة والثروة” الذي حكم تجربة الإيقاد ومشاكوس وCPA، رغم أنه انتهى بانفصال جنوب السودان؟ أم أن طبيعة الحرب الحالية تختلف جذريًا وتتطلب مقاربة جديدة؟

*رؤيتان متباينتان لمآلات الحرب

في المشهد الراهن، تتشكل رؤيتان متناقضتان حول الهدف النهائي endgame:

  • رؤية تدفع لدمج قوات الدعم السريع في معادلة سياسية وأمنية بصيغة من الصيغ.
  • ورؤية أخرى تعتبر الدعم السريع ملفًا عسكريًا/أمنيًا بحتًا، يعزز وجود الجيش الوطني الواحد، بينما تدعو إلى حوار سياسي ومجتمعي شامل دون إقصاء.

مبارك أردول ينسجم مع الرؤية الثانية، ويرى أن التفاوض يجب أن يقتصر على الترتيبات العسكرية والأمنية التي تؤسس لجيش موحّد دون وجود قوة موازية. ومع ذلك، يشير إلى أن أمام الدعم السريع خيارًا بالتحول إلى حركة سياسية إذا تبنّت غطاءً سياسيًا (على حد تعبيره)، ما يفتح سؤالًا جوهريًا:
هل يكفي تبنّي رؤية سياسية أو إنشاء تحالف سياسي جديد، بعد عامين من الحرب، كي يصبح الدعم السريع فاعلًا سياسيًا مشروعًا؟

ثالثا: إعلان جدة

ثمة التباس واسع في قراءة إعلان مبادئ جدة (11 مايو 2023). فالكثيرون يستشهدون به بوصفه يُلزم الدعم السريع بالخروج من الأعيان المدنية، بينما يتجاهلون أن هذا الالتزام مفروض أصلًا على الطرفين بموجب القانون الدولي الإنساني، خصوصًا البروتوكول الثاني لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف.
ويعيد إعلان جدة صياغة هذه الالتزامات عبر ثلاث نقاط رئيسة:

  1. حماية المدنيين والأعيان المدنية (بما فيها المنازل والمستشفيات والبنية الحيوية).
  2. الامتناع عن احتلال أو استخدام المرافق المدنية لأغراض عسكرية (أي أن كل طرف ممنوع من اتخاذ المدارس والمستشفيات والمنازل مقارًا عسكرية).
  3. ضمان وصول المساعدات، وتأمين، الممرات الإنسانية.

ورغم هذا اللبس، يظل إعلان جدة—في تقديري—المرجعية الأوفر حظًا لأي مفاوضات قادمة، خصوصًا أنه يستند إلى مبدأ التفاوض العسكري–العسكري، وينص بوضوح أنه لا يرتبط بأي انخراط في عملية سياسية مرتقبة. كما يفصل بوضوح بين المسار العسكري والمسار السياسي/الدبلوماسي، وهو فصل ضروري في أي محاولة جادة لوقف وإنهاء الحرب.

الواثق كمير
تورونتو، 26 نوفمبر 2025

اترك رد

error: Content is protected !!