كشفت الإجراءات التي قامت بها مجموعة من الصحفيين لاختيار نقابة لهم، عن هوة عميقة في فهمنا لقضية الحرية ولاحترام القانون والعمل وفق مقتضاه.
معروف أن طائفة من الصحفيين ممن أسموا أنفسهم “شبكة الصحفيين” ظلوا يقاطعون الإنتخابات التي كانت تجري في عهد الإنقاذ لتقدير سياسي يرونه، مع إن أحداً لم يحرمهم من ممارسة ذلك الحق، ومعروف أيضاً أن بعض أفراد هذه المجموعة انخرطوا في “تجمع المهنيين” وقادوا لاحقاً الانقسام الذي شهده ذلك التجمع حتى أصبح أحدهم على رأس أحد أجنحته، بدون المقر وكلمة السر.
وحين كان يجري التمهيد لإعداد وإقرار قانون النقابات المهنية في عهد حكومة حمدوك، قاد بعض رموز العمل الصحفي، أمثال الأستاذ محجوب محمد صالح، جهوداً لتوحيد تيار شبكة الصحفيين مع تيارات أخرى وأفراد برزوا على سطح الأحداث وكل يدعي وصلاً بالثورة، لكن تلك الجهود لم تُفضِ لنتيجة ملموسة، وظل الانقسام داخل الأجسام “الثورية” قائماً.
وفي المقابل، بقي طيف واسع من الصحفيين خارج دائرة الفعل إذ سلطت عليهم قوى الحرية والتغيير الحاكمة لجنة التمكين فحلت إتحادهم وأغلقت داره، وفصلت المئات منهم من مؤسساتهم (الإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان للأنباء) وشردت العشرات منهم من صحفهم (الرأي العام والسوداني)، وأوقفت حكومة حمدوك أي شكل من أشكال الدعم لصناعة الصحافة وتركت الصحف تواجه مصيرها، فاضطر أغلبها للتوقف القسري وتشرد مئات آخرون.
وفي حين انخرط الصحفيون الذين تمّ تشريدهم من مؤسسات الدولة في إجراءات قضائية لاسترداد حقوقهم في التوظيف وممارسة مهنتهم، انخرط آخرون في إجراءات إنشاء نقابة على الرغم من أن قانون النقابات الوطني لم تتم إجازته حتى على مستوى مجلس وزراء حكومة الحرية والتغيير!!
في ظل هذا الفراغ القانوني، والانقسام الحاد وسط القاعدة الصحفية، واصلت المجموعة التي تعتبر نفسها ثورية خطواتها لقيام نقابتها فأجازت نظاماً أساسياً، دون مرجعية قانونية، وأنشأت سجلاً اشتمل على العدد الأقل من القاعدة الصحفية الفعلية ولم يتم التحقق الكامل بواسطة جهة محايدة، ما إذا كان كل من فيه صحفي أم أنه ضم ناشطين أيضاً، وذهبت قدماً حتى أجرت بالأمس إنتخابات أدارتها بواسطة مناصريها وأعلنت نتائجها !!
لا شك عندي أن كل تلك الخطوات هي في جوهرها تُعبر عن موقف سياسي أكثر من كونه موقف مهني أو نقابي، وهو – الموقف السياسي – لا يعبأ كثيراً بوحدة القاعدة الصحفية، بل ربما جاز القول أن مَن قاموا به يعتبرون أنفسهم، دون غيرهم، هم أهل المهنة لا يشاركهم في الانتماء إليها أحد. وعلى كل حال تبقى هذه وجهة نظرهم.
لندع الفعل السياسي جانباً ونذهب غير بعيد عنه لنسأل عن السند القانوني الذي على أساسه أُجريت إنتخابات نقابة الصحفيين بالأمس، وسنجد أن الإجابة غير مختلف عليها بين جميع الفرقاء بمن في ذلك الذين شاركوا وفازوا في الانتخابات، وهي – الإجابة – أن الإنتخابات لم تُجر على أساس قانون ساري في السودان. بل قامت على أساس تأويلي هو مصادقة السودان على ميثاق منظمة العمل الدولية الخاص بحرية العمل النقابي، وحتى هذا التأويل لم يصدر من مؤسسة لها حُجيتها في تفسير أو تأويل القوانين!!
سؤال آخر مهم، وهو ما دام الأمر كذلك، أي أن القوانين التي تنظم العمل الصحفي والنقابي إما مجمدة أو غير موجودة، فهل يبقى الصحفيون، وهم طليعة التنوير، في حالة سكون أم يجب عليهم أن يتحركوا، وكيف يكون تحركهم في هذه الحالة؟ والإجابة عندي هي أنه يتعين عليهم أن يتحركوا، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي فعلوها، فالصحافة في كل الدنيا هي أداة ضغط وسلطة رابعة مستقلة لا يجوز لها أن تقوم مقام أي من السلطات الأخرى الثلاث، أي لا يجوز لها أن تُشرِّع القوانين ولا أن تأخذ تنفيذها بيدها. وما دامت هي سلطة رقابية تنوب عن الناس والرأي العام فقد كان يتوجب على الزملاء الذين صبروا على الإنقاذ ثلاثين عاماً أن يثبتوا أنهم استنفدوا وسعهم مع حكومة “الثورة” خلال عامي حكمها، لكي تحررهم من “القوانين المقيدة للحريات” وتستبدل لهم قانون نقابات الإنقاذ بقانون نقابات الثورة، لكنهم لم يفعلوا، وقد كان عليهم أن يمارسوا كل أشكال الضغط الأخرى على أحزاب قوى الحرية والتغيير لكي تتفق على تشكيل المجلس التشريعي الإنتقالي، لكنهم لم يفعلوا، ويبدو أن صبرهم نفد فقرروا أن يطعنوا في ظل الفيل الممسك بالسلطة وينشئوا نقابة بلا سند من قانون!!
ما حدث في تقديري ليس تمريناً ديمقراطياً كما ذهب البعض، فالديمقراطية التي لا تحترم القانون ليست سوى ضرب من ضروب الفوضى، فما الذي يمنع كل مجموعة من الصحفيين، بمن في ذلك الذين خسروا هذه الجولة، أن يعمدوا إلى الإتفاق على نظام أساسي يناسبهم ويعتمدونه بالأغلبية بينهم ويجروا إنتخابات على أساسه ويشكلوا نقابة (؟) لا شئ في واقع الأمر يمنع ذلك، وما أكثر الصحفيين الذين لم يشاركوا في ملهاة الأمس سواء داخل السودان أو خارجه، وكيف يكون التأسيس للفوضى النقابية إن لم يكن هذا !!
وأخيراً، إذا كان مَن يدعون الناس والساسة إلى احترام القوانين والالتزام بما تقضي به، وإلى احترام المؤسسية، هم أنفسهم يمارسون فعلاً بلا سند قانوني، فمن أين سيستمدون السلطة الأخلاقية ليطالبوا غيرهم باحترام القوانين، وباحترام أنفسهم حتى (؟)