
موقفان دوليان لافتان:
خلال أيام قليلة، صدرت إشارتان دوليتان مهمتان تجاه السودان:
١- تصريح المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى القرن الأفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى، السفير ماسيمينو “ماكس” بروسارد، يوم ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٥، بأن “السودان يعيش اليوم أكبر أزمة إنسانية في العالم” خلال إحاطته أمام الكونجرس.
٢- قرار البرلمان الأوروبي يوم ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٥ بدعوة المفوضية الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي إلى “تقييم إمكانية إدراج قوات الدعم السريع ضمن قائمة المنظمات الإرهابية”.
هذه التطورات، على أهميتها ووقعها السياسي، لا تزال في إطار الكلام الطيب أو “حديث الخير والإيمان”، ما لم تتحول إلى إجراءات تنفيذية حاسمة. فالتعاطف وحده لا يُطعم جائعًا، ولا يوقف قذيفة، ولا يعيد نازحًا إلى قريته.
تاريخ من التعاطف بلا فعل:
للأسف، التاريخ الغربي مليء بالأمثلة المأساوية التي اكتفى فيها المسؤولون بالتصريحات بينما كانت الكارثة تتفاقم أمام أعينهم.
فخلال الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا على علم موثّق بوجود معسكرات الإبادة النازية منذ عام ١٩٤٢. ورغم المناشدات المتكررة لقصف خطوط السكك الحديدية المؤدية إلى معتقل “أوشفيتز ” النازى فى بولندا، لم تُتخذ خطوات عملياتية جادة لوقف الإبادة، رغم أن القصف كان ممكنًا عسكريًا بحسب تقديرات ضباط أمريكيين لاحقين. اختلف المؤرخون حول الأسباب بين اعتبارات عملياتية وتقديرات سياسية، لكن النتيجة واحدة: مات مئات الآلاف بينما كان معسكر العالم الحر “يتعاطف”.
واليوم، وبينما يُقتل ويُهجَّر ويُغتصب مواطنون سودانيون يوميًا، يكفي أن ننظر إلى سرعة تجميد أصول روسية بين عشية وضحاها لنسأل: لماذا لا يحدث الشيء نفسه مع من يسعى لتدمير وطن بأكمله؟
هذا المثال ليس دعوة إلى تدخل عسكري خارجى في السودان، و هو أمر مرفوض تماماً من منطلق وطنى مبدئى، وإنما تذكير بأن الاعتماد على “النوايا الحسنة” وحدها قد يقود إلى خذلان جديد، تمامًا كما حدث في أسوأ صفحات القرن العشرين.
فرصة ذهبية أمام الحكومة السودانية:
اللحظة الحالية تمثل فرصة نادرة يمكن البناء عليها لإحداث اختراق كبير: الوصول إلى تصنيف دولي لمليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية. هذا التصنيف ليس رمزيًا، بل يصنع فارقًا كبيرًا في التمويل، والتحركات، والشرعية الدولية، ويمكن الاستفادة من سوابق مماثلة:
١- جيش الرب الأوغندي (LRA): صُنّف إرهابيًا من الولايات المتحدة عام ٢٠٠١ ثم من الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٥، فتم تجميد أمواله وانقطع عنه التمويل الخارجي.
٢- حركة الشباب الصومالية: بعد تصنيفها عام ٢٠٠٨، أصبحت أي معاملة مالية معها جريمة جنائية في معظم الدول الغربية.
٣- جماعة بوكو حرام: تصنيفها عام ٢٠١٣ أدى إلى تجميد الأصول ومنع التدريب والدعم اللوجستي.
هذه السوابق تُظهر أن التصنيف ليس خطوة سياسية فقط، بل أداة حصار مالي وقانوني تعجّل بانهيار الجماعات المسلحة.
ما المطلوب من الحكومة السودانية؟
لتحويل التعاطف إلى مكسب سياسي وقانوني، هناك أربع خطوات يتعين الشروع فيها فورًا:
١- تقديم ملف قانوني موثق إلى وزارة الخارجية الأمريكية وإلى مفوضية الاتحاد الأوروبي قبل نهاية يناير ٢٠٢٦، يشمل أدلة على جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، تطهير عرقي، تجنيد أطفال، واعتداءات جنسية ممنهجة.
٢- التحرك الدبلوماسى لعقد جلسة خاصة في مجلس الأمن لبحث إدراج قيادة مليشيا الدعم السريع ضمن قوائم العقوبات (تجميد أصول – حظر سفر)، وهي الآلية الأكثر واقعية واستخدامًا في السياق الدولي.
٣- تفعيل اتفاقيات التعاون القانوني مع دول أوروبية وخليجية لملاحقة قيادات الدعم السريع المقيمين على أراضيها. يتحرك بعضهم بين دبي وأبوظبي ونيروبي وأديس أبابا باستثمارات معلومة وواجهات مالية معروفة.
٤- إطلاق حملة إعلامية دولية موجهة للرأي العام الغربي، تستند إلى شهادات ناجين، وصور أقمار صناعية، وتقارير منظمات دولية، لخلق ضغط شعبي على الحكومات الغربية للتحرك.
نافذة قد لا تتكرر:
التعاطف الأمريكي والأوروبي الحالي نافذة محدودة العمر. وإذا لم يُترجَم إلى فعل سياسي وقانوني ملموس، سيتحوّل كما حدث في أزمات سابقة كثيرة إلى مجرد بيان تضامن تُطوى صفحته سريعًا.
وعندها لن يكون اللوم على واشنطن أو بروكسل، بل علينا نحن لأننا لم نستثمر اللحظة. شعب السودان يدفع ثمن التردد دماءً وألمًا ونزوحًا، ولا يحتمل مزيدًا من الانتظار.
خاتمة:
السيادة لا تُفرَّط بها بطلب عدالة دولية، بل تُحمى بها.
والتاريخ لن يتسامح مع من يترك الشعب السوداني فريسة لمليشيا مجرمة بينما ضمير المجتمع الدولي يمد يده ولو على استحياء للمساعدة.



