
1
في المقال السابق تناولت خطوتين قام بهما بنك السودان واعتبرتهما باتجاه المستقبل؛ الأولى تتعلق بتأسيس إدارة تُعنى بالشمول المالي لأول مرة، وهو القرار الذي جاء متأخرًا 15 عامًا منذ أن طالبت به الأستاذة هبَة فريد، مديرة وحدة التمويل الأصغر في العام 2010. وأسعدني أول أمس الخميس 20 نوفمبر تدشين بنك السودان المركزي مشروع تعزيز رفع نسب الشمول المالي وتكييف المشروعات الصغرى والصغيرة كبداية لتمويل الموسم الشتوي بإجمالي مبلغ 20 مليار جنيه سوداني، بتوقيع عدد 2 عقد مضاربة مقيدة بإجمالي مبلغ 1.8 مليار جنيه سوداني مع شركة عزم للتمويل الأصغر وبنك الإبداع للتمويل الأصغر. ذلك هو الاتجاه الصحيح نحو المستقبل.مبرووووك.
الخطوة الثانية كانت تتعلق بإلغاء احتكار محفظة السلع الإستراتيجية التي خُصِّص استيرادها لبنك واحد هو المساهم الأكبر في المحفظة.
2
اليوم نتناول الخطوة الثالثة، وهي تتعلق بفك احتكار تصدير الذهب، وقد تسبب هذا القرار في مجموعة من الكوارث. وكانت قصة عجيبة، احدثت هزّة كبيرة في أسواق الذهب، ودفع بمجموعة العاملين في الذهب إلى اللجوء إلى التحول للمضاربة في العملة، مما أدى إلى تدهور مريع في سعر العملة في زمن وجيز، ثم أدى القرار إلى نقص إيرادات الدولة من عوائد الصادر.
بدأت القصة في 15 سبتمبر 2025 حين أصدر بنك السودان المركزي القرار العجيب القاضي بحظر كل صادرات الذهب عن طريق القطاع الخاص، وجعل نفسه “المشتري والمصدّر القانوني الوحيد” للذهب السوداني، تنفيذًا لتوصية من “اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية”. الهدف المُعلن كان مكافحة التهريب، وحفظ حصائل الصادر داخل النظام الرسمي، ودعم احتياطي النقد الأجنبي المنهك.
عمليًا، هذا القرار أنهى دور الشركات والمصدّرين التقليديين، وأغلق باب التصدير أمام أي جهة سوى الدولة. وكان واضحًا أن هذا القرار سيُثبّط الإنتاج ويدفع أكثر نحو التهريب. وتزامن القرار مع حظر فعلي فرضته الإمارات على الرحلات والشحنات من وإلى بورتسودان، شمل شحنات الذهب، ما أدّى إلى توقف شبه كامل لصادر الذهب إلى السوق الإماراتية وكانت النتيجة تدهور الجنيه السوداني؛ فقد فقدَ نحو 40٪ من قيمته في فترة قصيرة (من 2200 إلى ~3600 جنيه للدولار في السوق الموازية). وحدث ارتفاع حاد في أسعار الوقود والقمح، لأن الحكومة كانت تعتمد على حصائل الذهب لتمويل هذه الواردات. كما حدث انكماش واضح في حصيلة الصادر الرسمية، مع استمرار تهريب الذهب عبر مسارات بديلة. بهذا المعنى تداخل الاحتكار الداخلي مع الحصار الخارجي، فصار الذهب أداة ضغط اقتصادية وسياسية معًا.
3
في 5 نوفمبر الحالي، وأمام الإكراهات والكوارث ادى اليها القرار ومع تغيير المحافظ، أصدر بنك السودان تعميمًا جديدًا سمح مجددًا للشركات والجهات القانونية المرخّصة بتصدير الذهب مباشرة بعد استيفاء ضوابط محددة (سداد الالتزامات، توثيق العوائد، الالتزام بسعر الصرف الرسمي/المتفق عليه… إلخ). أثبت نقض هذا القرار أننا لا نتعلم من تجاربنا ولا من تجارب غيرنا.
وكنت قد دخلت في جدل طويل مع أحد المسؤولين العاملين في الملف وحاولت أن أفهم منه أسباب ودوافع القرار وآليات تنفيذه، ولماذا الإصرار على تكرار قرارات مجرّبة ثبت فسادها وفشلها، ولماذا نضع كل الاقتصاد داخل خزائن بنك واحد؟ ما الفكرة، وما الجدوى، التي تبدو مخاطرها ظاهرة لكل من له أدنى علاقة بالاقتصاد؟
لقد حزنت حين عرفت أن القرارات الأخطر تُتخذ بالعشوائية المعروفة، ومن دون وجود آليات جاهزة لتنفيذ القرار، ومن دون الاكتراث بالتداعيات الكارثية التي يمكن أن يقود إليها قرار احتكار الذهب، وقد ظهرت آثاره الكارثية في وقت وجيز.إن أخطر ما يكشفه قرار احتكار الذهب هو العقلية التي تدير الاقتصاد بالقرارات الفوقية لا بمنطق السوق؛ عقلية ما زالت ترى أن السيطرة تُنتج موارد، وأن المنع يقلّل التهريب، بينما جميع تجارب السودان — وأكثر من 20 دولة في إفريقيا — أثبتت أن الاحتكار الحكومي يخلق سوقًا موازية أقوى ويزيد الفساد والتهريب معًا.لقد أثبتت تجربة الاحتكار الأخيرة أن الدولة لا تستطيع إدارة الذهب وحدها، وأن السوق حين يُغلق ينفجر من حيث لا تتوقع. هذا درس يجب ترسيخه حتى لا يظل الذهب رهينة قرارات فوقية لا تراعي الواقع.
4
وربما تكون أهم دلالات هذه القرارات والتحولات داخل بنك السودان أنها تؤشّر لواقع جديد يتجه نحو بناء مؤسسة قادرة على العمل في بيئة حرب متحركة، وفي ذات الوقت تمهّد للسلام وإعادة الإعمار، وقادرة على اتخاذ قرارات لأجل المستقبل. فالبنوك المركزية في الأوقات العادية تعمل على استقرار الأسعار وإدارة السياسة النقدية؛ أما في زمن الفوضى والاضطراب، فإنها تتحوّل إلى صمّام أمان ومركز ثقل للدولة، وهو الدور الذي بدأ البنك يستعيده بعد فترة طويلة من الارتباك والجمود. ان قوة بنك السودان ستكون شرطًا أساسيًا لدخول السودان في الاقتصاد الإقليمي الجديد، سواء في تجارة الذهب، أو ممرات النقل، أو سلاسل القيمة الزراعية. فاقتصاد بلا بنك مركزي قوي، كدولة بلا جيش: بلا قدرة على حماية مواردها.
5
إن فتح السوق أمام منصات دفع متعددة، وإنشاء إدارة للشمول المالي، والتخلّص من المحفظة الاحتكارية، كلها خطوات تشير إلى أن البنك يتحسس طريقه نحو المستقبل بثبات. الرهان الأكبر اليوم ليس على القرارات وحدها، بل على ثباتها وتطويرها مع القدرة على قراءة آثارها الحالية والمستقبلية. بنك السودان — بتحولاته الراهنة وقراراته باتجاه المستقبل — يضع أولى اللبنات في هذا الطريق الطويل




