
“اعتذار: أورثني حريق مكتبتي الخاصة أن ألج من حيث أكره، إذ غلب عليّ في هذه المقالة الذاتيعلى الموضوعي والتداعي بفعل ضياع ذاكرتيالثقافية التي كنت أدخرها أنيسا عند انحسار الظل وانشغال الناس عن الناس”
وأنا أداوي فجيعتي الثقافية تذكرت كتابا ومؤلفا وقصة،الكتاب بعنوان “الكتب مقابل السجائر”
Books vi Cigarettes للكاتب والأديب البريطاني جورج أوريل صاحب رواية “مزرعة الحيوان”، والمؤلف هو الدكتور حيدر إبراهيم، والقصة لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي.
كان الدكتور والكاتب السوداني حيدر ابراهيم يقول في مذكراته عن رحلة الريح والقلق، إن رائحة الكتب وهو يفض أغلفتها ويفوح منها حبر المطابع، تمنحه إحساسا أيروسيا لا يفارقه، لشدة تعلقه بالقراءة واقتناء الكتب. وتلك عادة ألفتها منذ الصغر، لا أدري كنهها ولكنها وسمت حياتي كلها، إذ ما نزلت مدينة إلا ابتدأت بمكتباتها.واقتطعت شيئا من دخلي لاقتناء الكتب، مما جعل والدتيتتذمر كلما عدت من بلد بعيد وأنا أهم بإنزال أرتال الكتب حتى تقول “الناس بجيبو في الحاجات السمحة وأنت مكمل قروشك في الكتب”.
لم تفجعني صور الشفشفة والنهب للمقتنيات المادية في منزلي بالخرطوم، والذي استحال قاعا صفصفا، أو سرقة سيارتي لكن أصابني شجنٌ شفيف وحزن عميق وأنا أشاهد مكتبتي التي تضم أكثر من خمسة آلاف كتاب تحترق كلها. اتخذ الشفشافة شقتي المتواضعة مكانا لتسييل كتل النحاس المستخلص من الكابلات الكهربائية المسروقة. فقط بسبب وجود الكتب التي تشكل مصدرا للنيران لعملية تسييل النحاس.
مصدر حزني الشخصي ومناط تفجعي الثقافي ليس مجرد فقدان هذه الكتب التي أنفقت عقودا في جمعها من مختلف أصقاع الدنيا، أو التأمل في قيمتها المعرفية أو ثمنها المادي لكن لكل كتاب قصة، ومعنى وموقف وتذكار من كل مدينة وبلد. كانت مكتبتي تمثل لي الذاكرة الثقافية الحية، تذكرني بالأيام والسنوات والشخوص والطقس الثقافي والمناخ الفكري الذي جعلني أختار هذه الكتب. كما تذكرني بالأمكنة، فهذا الكتاب من بيروت، وهذا المجلد من لندن، وهذه السلسلة من الدار السودانية للكتب، وهذه الرواية من سوق (مفروش) وهذه الدورية من نيويورك، وهذه المجموعة من الدوحة، وهذا من سوق الأزبكية بالقاهرة، أو معرض القاهرة للكتاب، وذاك من معرض ميونخ للكتاب، أو من سوق الكتب المستعملة على ضفاف نهر السين بباريس،وهذا هدية من المؤلف أرسلها من كندا، وهذا بتوقيع المؤلف من واشنطن، وهذا من شارع المتنبي ببغداد. كما أتذكر المؤلفين من قابلته وتحدثت معه عن كتابه، ومن تشرفت بتوقيعه على نسخة شخصية مع إهداء جميل. تذكرت إهداء هليدا جونسون لكتابها عن جنوب السودان حيث عملت رئيسا لبعثة اليونيسف في جوبا، والذي دشنتهعلى ضفاف بحيرة جنيف بسويسرا في مركز الحوار الإنساني. وكنت أثناء الجلسة قد هاجمتها مشيرا الى أن تحريضها لفصل جنوب السودان تحصد ثماره الآن دمارا وحريقا لشعب جنوب السودان، رغم قصة كتابها “اندلاع السلام في السودان “waging peace in Sudan الذيأرادت أن تكون فيه بطلة السلام في السودان وضمنته توثيقها الخاص لمفاوضات نيفاشا. وبالطبع لم تطق هذه الإسكندنافية الممشوقة القوام صبرا على النقد، وقالت إن اضطرابات جنوب السودان ما تزال جذورها في السودان رغم الانفصال. رغم ذلك كانت كريمة في منحي توقيعها على الكتاب مع إهداء لطيف.
كانت مكتبتي المحترقة تذكرني بالتطور الفكري الذي سرت عليه، إذ أجد أن مقتنياتي القديمة كانت تغلب عليها كتب التراث الإسلامي خاصة أمهات الكتب، في التفسير والفقه والحديث، وكتب آداب العربية، ودواوين الشعر القديم. وعندما أنظر إلى آخر ما اقتنيته من كتب أجد أن ذائقتي الأدبية وأفقي الثقافي أصبح عامرا بالإنسانيات، عابرا للمدارس والمذاهب والأيدولوجيات. وأميل إلى الموسوعياتأكثر من التخصص الفني الدقيق. أتذكر أنني اقتنيت”ديوان المتنبي” بشرحي البرقوقي والعُكبري، ورغم مكانة المعري عند عبد الله الطيب الذي أنجز عنه بحث الدكتوراهفي شعره، والتي تمت ترجمتها بحذق لافت من أحد تلامذته المميزين، إلا أن الطيب صالح كانت عقيدته الشعرية عند المتبني وكان يسميه بالأستاذ. كان ديوان المتنبي يقبع جنبا إلى جنب مع الأعمال الكاملة لنزارقباني، الذي ضم تصحيف قصائده الأولى مثل قصيدة “طفولة نهد” التي حولتها طبعة القاهرة إلى “طفولة نهر”، وديوان “أغاني إفريقيا” للفيتوري وكتاب أدونيس عن الثابت والمتحول”، وديوان شرب الكأس للشيخ عبد المحمود الحفيان. ولا يبعد عنها كثيرا مجلد واحد من كتاب تطور الشعر العربي في السودان للباحث اللبناني حليم اليازجيوكان في الأصل رسالة ماجستير في الجامعة اللبنانية، واختط الكتاب منهجا فريدا إذ أكد أنه في زمن انحطاط الأدب العربي كانت تسود في السودان نهضة شعرية أساسها شعر التصوف مستدلا بنماذج من قصائد الشيخ عبد المحمود الحفيان ومحمد سعيد العباسي وآخرين. بقي هذا المجلد وحيدًا حيث استعار المجلد الثاني الشيخ عبد الجبار المبارك رحمه الله ليقف على تحقيق الباحث عن شعر التصوف السودان.
وأتذكر جلسته المهيبة وهو يستقبلني في منزله في معية الصديق غالب محمد شريف الذي ابتلعته بيرمنغهام وكان حينها عشوقا للصيحة والنداء والمآذن، يعب من قهوة الدهقان حتى الثمالة، ويردد قصيدة الشيخ فرح ود تكتوكيا واقفاً بأبواب السلاطين أرفق بنفسك من هم وتحزين. قابلت الشيخ وأنا طالب جامعي يحمل باكورة إنتاجه وهو كتاب (اللامنتمي في أدب الطيب صالح) وقال: “يا بني إذا سلكت هذا الطريق سيكون لك شأن”.. ليتني استمعت لنصيحته حيث سرقتني معضلة الوظيفة التي قال عنها العقاد إنها (رق القرن العشرين والقرون التي تليه)، تضم المكتبة إلى جانب ما ذكرت مجموعة عن فقه اللغة أبرزها للدكتور عبد الواحد وافي، والأدب المقارن لمحمد غنيميهلال، ومعظم كتب فؤاد زكريا في الفلسفة، وإلى جانبه كتب عن تاريخ الفلسفة أبرزها لبرترناد راسل.
كنت مغرما بكتاب الأدب المقارن حتى وقعت على أعمال الشاعر محمد عبد الحي خاصة كتابه الرومانتيكية وأثرها على الشعر العربي. وهذا ضرب سبقه إليه الأديب الألمعيمعاوية محمد نور. كانت ترقد إلى جنبها كتب الشيخ عبد المحمود الحفيان عن موسوعة التصوف، وكنت أنتظر اكتمالالسلسلة حتى أظفر بكتابي المفضل عن فقه السماع، يقع إلى جانبه كتاب الدكاترة زكي مبارك -كما كان يطلق على نفسه- عن التصوف وكذلك كتابه النفيس عن “النثر الفني في القرن الرابع الهجري”، وكلا الكتابين نال بهما الدكتوراه، ويقبع إلى جوارهما كتاب صغير عن التصوف للدكتور عبد الله زروق أستاذ الفلسفة في جامعة الخرطوم الذي تحدث عن خصائص التصوف الإسلامي وقال إن أبرزها استصحاب المسيء لا زجره وتقريعه. هذا إلىجانب الكتاب العمدة “إحياء علوم الدين” لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وبعض كتب الجاحظ وكانت أقربها إلى نفسي “البيان والتبيين” وقد وصفه عبد الله الطيب بأن الجاحظ يعتبر صحفي عصره. كانت مكتبتي توازن بين كتب العقاد وطه حسين، رغم أنى أميل نفسيا للعقاد وأدبيا لطه حسين، لكن ميلي للعقاد ليس بسبب عصاميتهوعبقريته فحسب، ولكن لطبعه الأقرب لمزاج أهل السودان حيث كان يقول “ما وجدت طرفين حتى وقفت أدافع عن الضعيف مقابل القوة والجبروت”، واستقصيت علاقته بالسودان في مقال مطول بعنوان “الحلقة المفقودة فيعلاقة العقاد بالسودان”. هذا فضلا عن زيارته الشهيرة للسودان ونعيه للأديب معاوية محمد نور من مقلة ما شوهدت قط باكية. وتجد كتب محمود محمد شاكر خاصة “أباطيل وأسمار” تحتل المكانة التي تليق بها من الرفعة الأدبية في مكتبتي، وهو كتاب يعلمك دقة البحث وروعة الجدل الفكري والأدبي، وقد كان ردًا عاصفا على طه حسين الذي طعن في نسب المتنبي زاعما أنه كان ابن سقّاء في الكوفة مما يفسر نزعة تضخم ذاته الشعرية وتجنب ذكر أبيه في قصائده. ودلني أستاذي الدكتور السفير الخضر هارون على كتاب العقاد “أشتات مجتمعات” في اللغة حتى اشتريته من سوق الأزبكية بالقاهرة. كنت أجد في كتابه عن عبقرية الإمام علي ذلك الطيف العرفاني الذي يتمايز عن نهجه العقلي الصارم. كان الدكتور عبد الله حمدنا الله يقول لي إن معظم مثقفي السودان عقاديون وكتب الدكتور محمد وقيع الله (العقاديونالعشر في السودان) جعل على رأسهم المحجوب.
خصصت ركنا قصيا من المكتبة لمؤلفات الأستاذ الراحل محمد أبو القاسم حاج خاصة عمدة مؤلفاته “الإسلاميةالعالمية الثانية” وكتاب “السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل” وأخيرا كتابه عن “أبستمولوجيا المعرفة”وكونفدرالية القرن الإفريقي. ومحمد أبو القاسم مفكر ظلمه أهل السودان واحتفي به الخارج، حيث صار كتابه عن الإسلامية العالمية الثانية مقررا جامعيا في عدد منالدول خاصة المغرب ولبنان، كما اهتمت به الجامعات الغربية، ووجد ما يليق به من تقريظ واحتفاء من معهد إسلامية المعرفية IIIT بفرجينيا خاصة من البروفيسور طه جابر العلواني، وقال المفكر العراقي الراحل محمد شحرور إنه استفاد من علمه الدافق وتتلمذ على منهجه. أما كتابه عن “كونفدرالية القرن الإفريقي”، فقد كان هزة عنيفة لأصحاب الفكر التقليدي الذين يؤمنون أن مسار تاريخ السودان ارتبط بوادي النيل، لكنه يحيل النظر إلى حوض البحر الأحمر والقرن الإفريقي كرابط جغرافي وعمق تاريخي وحضاري، ومستقبل اقتصادي ومسار نحو التكامل الإقليمي. ومحمد أبو القاسم مفكر عصامي خرج لدائرة المجد الفكري بالتثقيف الذاتي مثل العقاد، إذ لم يكمل دراسته الثانوية كما لم يحصل على شهادة جامعية، لكنه كان يبذ أصحاب الألقاب العلمية الرفيعة لمضاء عقله، وأصالة طرحه وانتقالاته المعرفية من الفكر الاشتراكي، والقومية العربية إلى رحاب الفكر الإسلامي التجديدي.
اشتملت مكتبتي على مذكرات منتقاة أبرزها “من نافذة القطار” للفطحل عبد لله الطيب، وغربة الراعي للبروفيسور إحسان عباس، في طبعته الثانية التي حذف منها قصة خلافه مع عبد الطيب، وتلك قصة أخرى. اشتملت المكتبة على مذكرات ابراهيم منعم منصور، ومذكرات خضر حمد التي تحمل شفرات متعددة لتاريخ السودان، وقامت تحت ظلالها مناظرات قلمية بيني وآخرين وبين الدكتور سلمان محمد سلمان حول قضايا اتفاقية مياه النيل 1959. ويحمد للدكتور سلمان أنه نوه لأهميتها وطالب بإعادة طبعها فأستجاب مركز عبد الكريم ميرغني لهذا الرجاء النبيل. ولا يمكن لمكتبة جادة تهتم بتاريخ السودان وآدابه إلا أن تقتني كتاب حياتي لبابكر بدري والطبقات لود ضيف الله، والمرشد لفهم أشعار العرب لعبد الله الطيب. كنت معجبا بمذكرات يوسف ميخائيل التي حققها الدكتور محمد إبراهيم أبو شوك، لما تحمله من قيمة تاريخية لشاهد عيان على حقبة المهدية، والكتاب وليد الصدفة المحضة، وبفضل عبقرية مفتش مدينة الأبيض الذي وجد أن ميخائيل كان محبوسا لمدة شهر مع زوجته بسبب صناعة الخمرة البلدية (العرقي)، فطلب منه أن يدون ذكرياته عن المهدية. وسعدت أن البروفيسور أبو شوك أصدر الطبعة الرابعة للكتاب هذا العام 2025، رغم إدبار الناس عن القراءة بسبب الحرب والنزوح واللجوء.. كما اقتنيت مذكرات منصور خالد شذرات من سيرة ذاتية بأجزائها الأربعة، وسرني أنه استشهدبمقالاتي وجادلني بكرم معرفي في ثمانية مواضع، وقد تعلمت من نقده وتعليقه الكثير. هذا فضلا عن تقريظ قاله كفاحا عن مقالاتي في محاضرة مشهودة في وزارة الخارجية. كما ضمت المكتبة معظم كتب منصور خالد خاصة حوار مع الصفوة حتى كتابه كثرة الزعازع وقلة الأوتاد وكذلك جنوب السودان في المخيلة العربية. ولا يمكن مغادرة محطة منصور خالد دون ذكر كتاب الدكتور الواثق كمير عن “رحلتي مع منصور خالد: الخروج من الذات لملاقاة الآخر”، وهو كتاب وسيم قسيم، ومن أجمل ما كتب في السيرة الغيرية في تاريخ السودان الحديث. تشرفت باقتناء الكتاب بتوقيع وإهداء المؤلف.
القسم الإنجليزي من المكتبة ضم دوريات كاملة منها “فورن أفيرز” لسنوات مضت ومعظم مذكرات وزراء الخارجية في أمريكا، أولبرايت وسوزان رايس وكوندليسرايس وجورج تنت مدير (السي آي إيه) وهو يوثق لأحداث11 سبتمبر والرؤساء بوش الابن وكلينتون، وأوباما. كذلك مذكرات نتنياهو التي أهدانيها ابن عمي مصطفي عيسىمن معرض أبو ظبي للكتاب. ومذكرات لي كوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة ومهاتير محمد مؤسس ماليزيا الحديثة.وذاكرة ملك لملك الأردن الراحل الحسين بن طلال أهدانيهصديقي عادل عبد الرحمن الملحق الثقافي الأسبق في عمان. وبعض كتب فيلسوف الطريق الثالث أنتوني غيدن.
وجدت كتاب جورج متننر مدير تحرير صحيفة الواشنطن تايمز الأسبق بعنوان “إضاعة بن لادن” loosing bin laden. والذي خصص فيه عدة فصول عن قصة بن لادن في السودان والتي أورد فيها اللقاء الخطير بضاحية أرلنتغون بفرجينيا بين الفريق طيار الفاتح عروة رحمه الله وفريق (السي آي إيه) والسفير ديفيد شن نائب مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية. وفيها عرض الفاتح عروة تسليم بن لادن لأمريكا فرفضت سوزان رايس وكانت تشغل حينها مساعدة وزير الخارجية للشؤون الإفريقية. قابلت السفير ديفيد شن في ندوة لاحقة بعدها فكان يقول إن وجه الفاتح عروة كلاعب البوكر لا تستطيع أن تقرأ فيه أي تعابير. وعندما سألت المرحوم الفاتح عروة عن وقائع الكتاب ضحك وقال حولت قناعتي بإحالة الملف إلى FBI بدلا عن CIA التي كانت خاضعة لرغبات السياسيين أما وكالة التحقيقات الفيدرالية فهي معنية بالوقائع والقانون. وهناك كتاب صغير للمستشرق اليهودي برنارد لويس بعنوان “ما الخطأ”
What went wrong وهو كتاب حضرت تدشينه في مكتبة الكونغرس في مناظرة شهيرة مع الدكتور محمد أركون. هذا رغم أن الكتاب صدر قبل أحداث سبتمبر لكن أضاف إليه الكاتب مقدمة ضافية تناولت تلك الأحداث ليعيد التأكيد أن الإسلام مسكون بجرثومة العنف، فكان رد أركون وماذا عن جرثومة العنف الغربي التي قتلت عشرات الملايين في الحرب العالمية، ولم يكن الإسلام طرفا فيها.تضم المكتبة مذكرات برنارد لويس التي خصص فيها صفحات عن فترة عمله أستاذا زائرا بجامعة الخرطوم. وبرنارد لويس أكثر المستشرقين خطرا في التأثير علىصناع القرار الغربي فهو فضلا عن يهوديته فقد جمع بين الجنسيتين البريطانية والأمريكية. وهو من قدم الخطة السرية لتقسيم العالم العربي للكونغرس عام 1983.
تجملت مكتبتي ببضعة كتب للراحل البروفيسور إدواردسعيد خاصة “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”، ووجدت في كتب البروفيسور وائل حلاق -وهو فلسطيني مسيحي مثل إدوارد سعيد- ذات السمت المعرفي المدقق خاصة كتابه الدولة المستحيلة. فإدوارد باحث في الأدب عن تاريخ الاستشراق والإمبريالية، ووائل حلاق الذيعاصره في الجامعات الأمريكية يحاول أن يعيد ربط أصول الفقه بلوغوس المنطق اليوناني. تمثل استدراكات وائل حلاق علي منهج إدوارد سعيد في نقد الاستشراق أهمية نوعية في تشكيل الذهن النقدي العربي، إذ دعا للتركيز علي نقد الأسس الفلسفية للمشروع الإمبريالي لا نقده من داخله بنفس أدواته كما فعل إدوارد سعيد. تجملت مكتبتيبمعظم كتب الدكتور التيجاني عبد القادر خاصة عمدة مؤلفاته “أصول الفكر السياسي في القرآن المكي” وكذلك بعض مؤلفات دكتور عبد الوهاب الأفندي خاصة كتابهwho needs an Islamic state من يريد دولة إسلامية؟ هذا إضافة لمعظم كتب الصحفي الشهير بوب وودوردخاصة كتابه Bush at war التي وثق فيه تفاصيل اجتماعات مجلس الأمن القومي لإدارة الحرب وغزو العراق وضرب مصنع الشفاء في السودان. ولفت نظري حديث وزير الخارجية الأسبق كولن باول وهو يقول أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي يجب ألا نكرر أخطاء ضرب مصنع الشفاء. وكنت أحتفظ أيضا بكتاب كولن باول رحلتي الأمريكية. وجدت في مكتبتي كتاب وورود الشهير (الحجاب) Veil والذي ضمنه حروب وكالة المخابرات العسكرية السرية في كل دول العالم خاصة أمريكا اللاتينية. واشتريته من دار كتب مستعملة بضاحية جورج تاون في واشنطن بعد أن نفدت طبعاته ودلني عليه ناشط من الأمريكيين الأفارقة ليؤكد نظريته عن تآمر الإنسان الأبيض على العالم. كانت تضم مكتبتي المحترقة عددا من كتب فوكايما لا سيما كتابه الشهير نهاية التاريخ، وكذلك كتاب وبناء الدولة وأصول النظام السياسي، وكتابه قبل الأخير عن الصدأ السياسي وأمريكا عند مفترق الطرق، ورصدت من خلال كتاباته ردته الفكرية وتراجعه من دعم مشروع المحافظين الجدد إلى جادة الليبرالية كما تقتضيها معايير المثقفين والمفكرين والأكاديميين الغربيين. كنت أحتفظ بنسخة مرجعية من كتاب هنتنجتون صاحب صراع الحضارات، وهو كتاب (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة) وأعتبره أهم كتبه وهو كتاب عمدة في مجاله حرره في عقد الستين وما يزال مرجعا هاما في رصد أشراط التغيير السياسي والتحولات الديمقراطية في دول العالم الثالث، ويقدم حلولا لأزمة فشل مشروعات التحول الديمقراطي في السودان من خلال نتائج دراسته ومنهج البحث الشامل الذي أتبعه. ضمت مكتبتي دراسات معمقة عن قوة اليهود في أمريكا خاصة كتاب قوة اليهود Jewish power لغولدبيرغ وهو يسبر عمل المؤسسات الاقتصادية والإعلامية لليهود في أمريكا ويجب على السؤال الجوهريكيف تستطيع قوة اليهود الانتخابية التي لا تتجاوز 4% (حين صدور الكتاب) إلى القدرة على السيطرة والنفوذ والتأثير على مراكز صنع القرار خاصة السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط. وكذلك بعض الكتب التي ناقشت ظاهرة العولمة أشهرها للدكتور جوزيف ستيغلتز الحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد Globalization and its discontents وكتب توماس فريدمان مثل السيارة اللكزسوشجرة الزيتون والعالم مسطح world is flat ، كنت أحتفظ بعدد مقدر من كتب هنري كسينجر لكن توقفت علىكتابه الصادر عام 2014 بعنوانworld order (النظام العالمي) وهو في ظني أهم كتبه النظرية وهو يستعرض تاريخ الإمبراطوريات في العالم وصولا إلى النموذج الأمريكي، وهو كتاب يضاهي في أهميته كتابه المرجعي عن الدبلوماسية وهل تحتاج أمريكا لسياسة خارجية و كتابيه عن الصين والقادة.
كلما أتذكر كتاب الحديث المعسول مع سمك القرش sweettalk with the shark للأمريكي بيل ريتشارصن حاكم ولاية نيومكسيكو، المتخصص في حل الأزمات. لأنه خصص فصلا عن حواره مع البشير لإطلاق سراح طيار أمريكي تم القبض عليه بملابسات مشبوهة خارج مهمتهفي دارفور، وكيف اتفق مع زوجته على تمثيلية خالطتها الدموع لاستدرار عطف السلطات.
ولأني أكتب من الذاكرة فقد كانت هناك عشرات الكتب عن الاستراتيجيات والمذكرات والسياسة والعلاقات الدولية. إضافة إلى كتب موسوعية في مجالات مختلفة. ومن الروايات فضلا عن الكلاسيكيات جمعت منتخبات من الرواية العالمية والعربية والسودانية. وجدت نفسي مؤخرا أكثر انتخابا لروايات جائزة البوكر العربية التي تعتبر أفضل ما ينتجه الإبداع الروائي العربي بمعايير تنافسية عالية الجودة. ولا شك تحتل كتب الروائية السودانية ليلىأبو العلا مكانتها اللائقة، حيث أسرتني روايتها مئذنة وحارة المغني التي وثقت فيها مأساة عمها الشاعر حسن عوض أبو العلا. أما في التراجم فكنت أكثر ميلا واحتفاء بتراجم بروف بدر الدين الهاشمي في سلسلته الفريدة (السودان بعيون غربية)، والذي شرفني بتقديم إحداها. كما أجد في سلسلة السلطة والتراث للبروف أحمد إبراهيم أبو شوك وكتب عبد الله علي إبراهيم العزاء في الثراء الفكري والثقافي. اقتنيت معظم كتب جي أسبولدنغ عن السودان وسبق وأن التقيته في مؤتمر علمي بكاليفورنيا وقد برع الدكتور والسفير الراحل أحمد المعتصم الشيخ الذي جمعتني به صداقة ثقافية وارفة، في ترجمة كتابه “عصر البطولة في سنار”. وقفت في مكتبتي المحترقة علىبعض كتب محمود محمد طه، ووجدت في مراجعاته السياسية اجتهادا عبقريا ونظرا عميقا سبق به زمانه وأترابه خاصة قضايا الدستور وجنوب السودان والشرق الأوسط، ولكنه حسب ظني المتواضع فقد تنكب الطريقفي اجتهاداته الباطنية، ولا تصلح تلك أن تكون حجة لمصيره الذي ساقه إليه الرئيس الراحل جعفر النميري كما قال عبد الله الطيب في قصيدة رثائه فالفكر لا يقارع إلا بالفكر وليس بالسيف. واحتفظت في مكتبتي ببعض إصدارات محمد إبراهيم نقد خاصة الرق وعلاقات الأرض ومؤلفات جمال محمد أحمد خاصة وجدان إفريقيا وتطور الحركة الوطنية في مصر وهي رسالته للماجستير. كما كنت أحتفظ ببعض وثائق المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي خاصة الورقة المرجعية للزعيم الراحل عبد الخالق محجوب عن الخطأ في العمل الجماهيري. ومن منتخبات الترابي في مكتبتي كان “الكسب والنهج والتطور” والنظم السلطانية، وتجديد أصول الفقه والمرأة بين أصول الدين وتقاليد المجتمع والتفسير التوحيدي الذي اقتنيت منه طبعة دار الساقي في لندن. وعلى ذكر هذا التفسير، ظن البعض أنه كان متأثرا بمنهج الزمخشري في الإحاطة البيانية لكنه حسب ظني كان أقرب إلى منهج محمد عبده وللعالم التونسي محمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير، وأعتقد أنه تأثر فضلا عن اجتهادات المودودي الفكرية أيضا بفقه المقاصد الذي كتبه بن عاشور أيضا على ظلال كتاب الإمام الشاطبي في الموافقات. في الإسلاميات كنت أحتفظ بطائفة من كتب مالك بن نبي، وإلى جانبها فرانز فانون خاصة المعذبون في الأرض، في عقيدة مقاومة الاستعمار. على ذكر مالك بن نبي كنت قد اقتنيت كتاب (ذكرياتي مع المجذوب) للراحل علي أبو سن، وهو الكتاب الذي أحدث ضجة وسفهته أسرة المجذوب. وذكر فيه أنه استضاف في غرفته الجامعية بالقاهرة مالك بن نبي عندما لم يكن أحد يعرفه وقدمه في محاضر. وأجد في كتب البروفيسور عطا البطحاني علما غزيرا ومنهجا موضوعيا خاصة مباحثه عن الانتقالات السياسية في السودان. وكذلك كتب وأوراق حسن حاج علي خاصة مباحثه عن الجيش والسياسية وقضايا القرن الإفريقي وعسكرة البحر الأحمر. كنت أحتفظ أيضا بكتاب صغير الحجم لكنه عظيم الفائدة عن “سنوات النفط في السودان” للأستاذ الصحفي الكبير السر سيد أحمد، والذي قدم فيه بحثا متفردا عن قصة النفط في السودان وعائداته. وأتذكر أن الراحل منصور خالد قال في حفل تدشين الكتاب أن الأستاذ السر كاتب فتاش لا يأتي بمعلومة إلا دعمها بالوثائق والأرقام. وتشرفت أنني استضفته على تلفزيون السودان لمناقشة كتابه المذكور.
لا شك أنني احتفظت في مكتبتي بالأعمال الكاملة للطيبصالح. هذا فضلا عن مختاراته التي نشر فيها مقالاته بمجلة “المجلة” خاصه عموده الشهير “نحن أفق بعيد”. لكن كنت أحتفظ على نحو خاص بمقال شد ما أسرنيوأعتبره درة ما كتبه في المذكرات، بعنوان (في تذكر أيام الشباب في لندن) ولم ينشر هذا المقال ضمن مختاراته، والذي تميز فضلا عن أسلوبه الأدبي الرائع أنه تضمن الشفرة التاريخية لذلك الجيل داخل أروقة البي بي سي في لندن. ولا تستطيع أن تتجاوز وصفه لزملائه مثل ليلىطنوس التي قال عنها إن صوتها كأنه يتحسس أثر العملة الأثرية القديمة ومع توهج رواياته لكن وجدت في آخر أعماله وهي رواية (منسي.. إنسان نادر علي طريقته) أصداء السيرة الموازية كما قال الدكتور الأديب عبد الرحمن الخانجي. وهي رواية كما يطلق عليها الفرنجةUnputdownable أي أنك لا تستطيع أن تضع الكتاب جانبا دون أن تكمل قراءته.
ضاعت في مكتبتي المحترقة كل مؤلفاتي على قلتها النسخ الورقة والنسخ المرنة الإلكترونية، ومسودات كتب ومباحث وأوراق قدمتها في مؤتمرات داخل وخارج السودان. أي أنني عدت طفلا غريرا إلى شجرة ميلاد المعرفة. وكنت أحتفظ في مكتبتي بظرف أصفر يضم تسعة كتب أهدانيها الأستاذ مضوي قسم الله، وهو رجل علىجليل قدره وعلو معرفته لم تكتحل عيناي برؤيته. إذ اطلع مصادفة على أحد كتبي، فراسلني مشجعا ومقرظا وأهداني من مكتبته الخاصة عدة كتب، وكنت أنظر لهديته بكثير من الامتنان العرفان.
عندما أهديت نسخة من كتابي (سيرة الترحال عبر الأطلنطي) إلى الإمام الراحل الصادق المهدي وكان يتضمن مقالا عن كسبه الفكري فقال عني أنني مثقف جاد، وعند وفاته رثيته بمقال مستفيض بعنوان (رحلة في العقل العرفاني الجريح). وأعانني على استمطار أدمعي في ذلك الرثاء وأنا أستعرض اجتهاداته الفكرية، ورقة كنت أحتفظ بها في مكتبتي لأكثر من 15 عاما كان قدمها الإمام الصادق المهدي في مؤتمر عن الإرهاب والعالم الإسلامي استضافته جامعة الدفاع بواشنطن وشاركتهفيه الزعيمة الباكستانية الراحلة بنظير بوتو، وكنت حاضرافي ذلك المؤتمر، وأتذكر كيف كنت فخورا بطرحه الذي تفوق به على كل المشاركين.
أهداني صديقي الأستاذ المثقف والمترجم زهير الكارب في ألمانيا كتاب بعنوان “أحس بالذنب عندما guilty when I say no. I feel. وكان هدفه من الإهداء ليس التثقيف والمعرفة فحسب بل يظن أنه علاج سلوكي. إذ لاحظ أن أداة النفي فضلا عن النهي ليست جزءا من تكويني النفسي والاجتماعي مما يراكم الحرج في بعض المواقف، وعندما قرأت الكتاب لم يلحظ أي تغيير يذكر فقال ضاحكا “ما فيش فايدة غطيني يا تفيدة”. وكان الكتاب ضمن مقتنياتي كلما أرمقه أتذكر تفيدة وغطاؤها الذي ذهب مثلا في الحواديت المصرية.
ظللت أقدر على نحو خاص كتاب روبرت كرامر “أم درمان.. مدينة مقدسة على النيل” الذي ترجمه بروف الهاشمي الحامدي وأعتقد أنه الكتاب الذي يفكك شفرة أم درمان التاريخية دون غلو أو تفريط. ويعيد ترسيم خارطة أم درمان الاجتماعية والسياسية بمزيج من نظرة القداسة والواقعية.
احتفظت في مكتبتي بكتاب أهدانيه الدكتور المحبوب عبد السلام عن «تاريخ القراءة» للروائي الأرجنتيني آلبرتومانغويل. وكنت قد استتفهت الكتاب أول مرة حتى أخذني في رحلة عقلية وتاريخية ممتعة، ونفس الإحساس راودني وأنا أطالع كتاب “عصر التفاهة” للفيلسوف الكندي آلان دونو، حتى فاجأني بتحليل عميق عن ظواهر الانحطاط في مجتمعنا المعاصر حيث تم استبدال الحرفية الدقيقة والمهنية العالية بالخبراء.
أكثر ما أحزنني في حريق مكتبتي ضياع وثائق وأوراق علمية ظللت أحتفظ بها لسنوات طويلة منها رسالة الدكتوراهلجون اسبزيتو أستاذ الدراسات الاسلامية في جامعة جورج واشنطن عن الطريقة الختمية. وحصلت عليها من مكتبة الجامعة نفسها. وهي دراسة عميقة شاملة عن الطريقة الختمية والتي أثبت فيها أنها فاعل أساسي في مسيرة الحداثة في السودان. وللأسف لم تترجم هذه الرسالة على أهميتها إلى اللغة العربية. كما احتفظت أيضا بكامل بحث الأستاذ الفرنسي مرجليوث المنشور باللغة الانجليزية عن بطلان الشعر الجاهلي على النحو الذي قلده فيه طه حسين في كتابه في “الشعر الجاهلي” وقد أهداني إياه صديق من جامعة ميسوري. وقد أثار الكتاب في حينه معركة فكرية ضارية في مصر خاصة مع الأزهر اضطر فيه طه حسين للتراجع عن طرحه لمنهج الشك الذي جعل قصص القرآن الكريم مثار تساؤل عن حقيقتها التاريخية، فأعاد طبع الكتاب بعد الاستتابة الفكرية باسم “في الأدب الجاهلي”. كما احترقت أيضا ورقة فكرية مهمة كتبها الإمام الراحل الصادق المهدي عن مكافحة الإرهاب من وجهة نظر إسلامية باللغة الإنجليزية -كما ذكرت من قبل- والتي شارك بها في مؤتمر وزارة الدفاع بأمريكا، وكذلك ورقة عن التقعيد الأصولي للسلام كما ورد في اتفاقية السلام الشامل باللغة الإنجليزية حررها الشيخ الراحل حسن الترابي، وهي ورقة نادرة غير منشورة.
ضاع في حريق مكتبتي التقديم الورقي الذي حررته لأكثر من تسعة كتب أبرزها للبروفيسور بدر الدين الهاشمي والأستاذ عادل الباز والدكتور حامد فضل الله والدكتور عماد ميرغني والدكتور أمير ناصر والدكتور محمد بدويمصطفي وحواشي على التقديم للدكتور عبد الله علي إبراهيم، وكتاب مذكراتي للبروفيسور أحمد الأمين الشيخ على حاشية تقديم أستاذي عبد اللطيف سعيد، والأستاذ والصديق الشاعر الأستاذ عصام عبد الباسط وآخرين.
لعلي أختم هذه التداعيات بما بدأت به مقالي عن كتاب الإنجليزي جورج أوريل وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي.
حرر جورج أوريل في العام 1946 كتابا عن اقتصاديات القراءة والمعرفة وهو يوازن بين شراء الكتب وتدخين التبغ. وصدر الكتاب باسم books vi cigarettes,.
وأكد في كتابه الذي وجد صدى في وقته أن القراءة تعد ضربا من ضروب الترفيه، مثل السينما وتدخين التبغ. ووجد أن ما ينفقه على متعة القراءة وشراء الكتب يقل كثيرا عما ينفقه على التبغ والمشروبات الروحية. فأجاز بروح الأديب اقتصاد المعرفة وكان حينها يكتنز في مكتبته عام 1946 حوالي 900 كتاب.
خرج أبو حامد الغزالي من طرطوس إلى جرجان يبتغي علما عن أبي إسماعيل فكمن له اللصوص وسرقوا كتبه،وأبو عليه أن يعيدوا خريطته وهو جراب الكتب، وكان رئيس اللصوص يتهكم عليه كيف إذا أخذنا عنك كتبك زال علمك. فعكف على حفظ علمه في صدره. للأسف لا أحد يملك عبقرية الغزالي ولا قريحة عبد الله الطيب ليختزن العلم في العقل والصدر.
سأعود مكرها لبناء مكتبة رقمية في الفضاء الافتراضي، لا تعوضني إحساسي القديم بحفيف الأوراق ورائحتها المعتقة القديمة. إذ كنت متمسكا بطقوس القراءة التقليدية ومطالعة الكتب وفض أغلفتها واستنشاق حبر المطابع علىالنحو الذي تعلق به حيدر إبراهيم. كنت أدخر مكتبتيلشيخوختي لتكون أنيسا ورفيقا أطل عبرها إلى السنوات والذكريات والمواقف. وكما قال منصور خالد في أخريات أيامه إنه صادق الكتاب والنبات، لأن صحبة البشر مجلبة للسخط إلا من أخذ الصداقة بحقها وصحبك طفلا غريرا ويافعا حالما وشابا قويا وشيخا ضعيفا. قال لي أستاذيفي علم التاريخ.. إن كثرة الكتب لا تورث العلم، وحفظ المعلومات لا يصنع الثقافة، لكن رحيق المعرفة هو ذلك الإكسير الذي يتشكل في الوجدان وتلافيف العقل وعرىالاستقامة في طلب الحق. قال الغزالي.. تعلمنا العلم لغير الله فأبي العلم إلا أن يكون لله.