تقارير

بعد ملحمة القصر الجمهوري .. الجيش يستعيد السودان من التمرد

تقرير يكتبه : خالد محمد علي *

  عكست احتفالات الشعب السوداني باستعادة الجيش للقصر الجمهوري صباح الجمعة الماضية حالة الانسجام التي تشكلت بين الجيش والشعب عقب إعلان قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” التمرد على الدولة في الخامس عشر من أبريل 2023

 وجاء استرداد القصر تعبيرًا عن تخطيط عسكري طويل اعتمد سياسة الحصار والانقضاض، والتي نجح من خلالها في استعادة ولايتي الجزيرة وسنار، والجزء الأكبر من العاصمة المثلثة الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، ثم كللت تلك الانتصارات بعملية القصر التي استرد فيها الجيش الأمل في تحرير كامل التراب السوداني من أيدي التمرد بعد التدخل الإقليمي والدولي الداعمين لمليشيا الدعم السريع والمحاولات الفعلية لتقسيم البلاد.

 كان الأمر محزنًا ومهينًا عندما عقدت المجموعات السياسية من قوى الحرية والتغيير إلى تقدم وصمود بدعم من “حميدتي”، وتحت مظلة القوى الدولية، مؤتمراتها وورش عمليها، لتتحدث علانية عن تفكيك الجيش وأجهزة المخابرات، وصناعة دستور على المقاس الأوروبي يتنافى مع دين الدولة وأخلاقها وقيمها أملًا في الحصول على رضى ودعم الرجل الأبيض في عواصم الغرب.

  وأسفر مشروع حميدتي قائد المليشيا العسكرية، وعبدالله حمدوك قائد المليشيا السياسية عن تشريد وقتل الشعب السوداني بالتجويع والأوبئة، بل والذبح على قارعة الطرق.

   واستخدمت المنظمات الدولية مصطلحات لوصف الوضع في السودان بأنه الأسوء في التاريخ، وكارثة الجوع والأوبئة التي تحصد آلاف الأطفال، وعمليات النهب المنظم لمخازن الأدوية والأغذية وتدوير محطات الكهرباء والمياه، وسرقة ممتلكات الشعب السوداني بعد طرد الناس من بيوتهم، وبيع حرائر السودان في أسواق للعبيد أقامها “حميدتي”، ليشاهد العالم أجمع كيف يستهين هذا الرجل بشعبه، ويستمتع بإذلاله، ثم يتباكى الغرب المتحضر من أن طائرات الجيش السوداني ضربت مدنيين من الدعم السريع كانوا يحتلون بيوت البسطاء والمدنيين من أبناء الشعب.

 إن استعادة القصر تستعيد معها الذاكرة كل تلك المآسي التي توشك أن تنتهي تحت أقدام قوات الشعب التي انتصرت وحاصرت هذا المشروع الاستعماري الذي يطمع في كل ثروات الشعب، ويرى أنه لا يستحقها.

  لم تأتي عملية استعادة القصر  بسهولة، ولكن معركة استمرت أربعة أيام قدم فيها الجيش عدد كبير من الشهداء كللت بالانتصار بعد إحكام الحصار على قوات التمرد وتصفيتهم داخل وخارج القصر.

  وجاء هذا النصر الاستراتيجي ليمهد الطريق أمام انتصارات أخرى ستكون أكثر سهولة ويسرًا خاصة بعد صدمة الهزيمة الكبرى في القصر الذي يمثل رمزًا لسيادة الدولة السودانية.

تفاصيل المعركة

  كان السادس عشر من مارس الجاري نقطت تحول في معارك الخرطوم، عندما تحركت قوات من سلاح المدرعات والتحمت بقوات القيادة العامة ليشكلا معًا القوة الضاربة التي حسمت معركة القصر من خلال حصار المليشيا من كل جانب. 

    وتمكنت القوات من تحييد المواقع القريبة من القصر، عبر قطع كافة خطوط إمداد قوات الدعم السريع في وسط الخرطوم، وعزلها عن مناطق انتشارها في الأحياء الجنوبية والشرقية للعاصمة، مما شكل ضغطاً لوجستياً وعسكرياً على التمرد.

   وفي أول تصريحات له من منطقة الكاملين بالخرطوم بعد سيطرة الجيش على القصر الرئاسي، أكد الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة ، أن المعركة لن تتوقف عند هذا الإنجاز، بل ستواصل القوات عملياتها العسكرية حتى تحقيق الأهداف الكاملة، مبرزًا أن الجيش “يستمد روحه القتالية وقوته من دعم الشعب السوداني ووقوفه خلفه”، في إشارة إلى تلاحم الجيش والشعب ضد التمرد. 

   وفي بيان للجيش السوداني أعلن المتحدث باسمه العميد نبيل عبد الله،  نجاح القوات في “سحق شراذم مليشيا آل دقلو الإرهابية” بمناطق وسط الخرطوم والسوق العربي ومحيط القصر الجمهوري، الذي وصفه بـ”رمز سيادة وكرامة الأمة السودانية”. 

  وأوضح البيان أن العملية أسفرت عن تدمير كامل لأفراد ومعدات المتمردين، مع الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات العسكرية، مؤكداً أن هذه الخطوة تُوجِّه ضربةً استراتيجية لمراكز قوات الدعم السريع.

   وجدد المتحدث العسكري تأكيد استمرار الجيش في التقدم بكافة المحاور العسكرية، مشدداً على أن المعركة “لن تتوقف حتى يتم تطهير كل شبر من البلاد من دنس المليشيا وأعوانها”. 

    كما بثت منصات تابعة للجيش مقاطع فيديو تظهر لحظة اقتحام جنوده للقصر الرئاسي وانتشارهم داخل المقر السيادي، إلى جانب عرض أسرى من قوات الدعم السريع، في خطوة تهدف إلى تعزيز الروح المعنوية للقوات وإرسال رسالة تفاؤل بالانتصار للرأي العام.

القصر واستعادة الدولة

   يمثل القصر الرئاسي في الخرطوم، المعروف تاريخيًا بـ”قصر الشعب”، رمزًا لسيادة الدولة السودانية، والذي أعلن حميدتي قبل ثلاثة أيام من استعادته من جانب الجيش أنه سيكون مقبرة للجيش السوداني، وتأتي سيطرة الجيش عليه وطرد عناصر التمرد، والاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة التي كانت مخزنة بداخله، لتشكل نصرًا استراتيجيًا للأسباب التالية:

1. يجسد القصر رمزية سيادة الدولة وشرعية الحكم، باعتباره مقر للمؤسسة الحاكمة الأعلى في السودان، خاصة وإن عمر القصر الجمهوري أكثر من 200 عام، ومنه أعلنت الثورة المهدية نجاحها في هزيمة القوات الإنجليزية المحتلة، وقتل قائدها غردون باشا داخل القصر، وسيطرة الجيش عليه تعزز صورتالجيش كحامٍ للدولة ومؤسساتها، في مقابل ترسيخ صورة قوات الدعم السريع باعتبارها ميليشيا متمردة.

2. هناك رمزية فارقة بدخول الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، وقائد الجيش، إلى قلب القصر باعتبار ذلك نهاية للتمرد واستعادة الدولة، مثلما كان دخول حميدتي إلى القصر الجمهوري في اليوم التالي من التمرد في 15 أبريل 2023، بداية لنجاح التمرد في السيطرة على الدولة السودانية.

3. تمنح السيطرة على القصر الجيش مكاسب إعلامية وسياسية، ودفعة معنوية كبرى ستمكنه من طرد بقايا التمرد في جنوب وشرق الخرطوم، إضافة إلى تجميع وحشد القوات العسكرية لتحرير ولايات درافور الأربعة من أيدي الدعم السريع.

4. تضعف السيطرة على القصر معنويات قوات التمرد، خاصة بعد مشاهد تشتيت قوات الدعم في الخرطوم وبحثها عن طرق للهروب من العاصمة، وتعزز ثقة مؤيدي الجيش، خاصة في ظل الدعم الشعبي الذي يحظى به في معظم أنحاء البلاد.

تأثير استعادة القصر على التمرد

1. وخسارة الدعم للقصر الجمهوري يضعف ادعاءاته بشرعيته كشريك في الحكم، ويجعله يبدو كقوة تمرد، وينهي تمامًا حكومة الدعم السريع الموازية التي أعلن عن تشكيلها بداية هذا الشهر في العاصمة الكينية نيروبي.

2. تؤدي استعادة الجيش للمرافق الحكومية إلى شل قدرات قوات الدعم السريع على الاستفادة من موارد تلك المؤسسات إضافة إلى استغلالها في التخاطب مع الجهات الأجنبية، وهو ما يضعف نفوذه السياسي والمالي برغم نجاح التمرد في فتح قنوات للدعم الخارجي من دول إقليمية ومنظمات دولية.

3. قد تدفع هذه التطورات الدعم السريع إلى الرجوع لمفاوضات جدة والتي رفض مقرراتها، وقبوله بالخروج من المؤسسات المدنية وتجميع قواته في معسكرات يحددها الجيش، وتسليم أسلحته كقوات مهزومة وليس كفريق مفاوض.

    ويرى المراقبون أن سيطرة الجيش على القصر الجمهوري، وجميع الوزارات، ومنطقة وسط الخرطوم، تعني قرب تحرير العاصمة بشكل كامل خاصة وأنه لم يتبقى للدعم إلا مطار الخرطوم الذي يبتعد عن القصر الجمهوري بأقل من 4 كم، ومنطقة الارتكاز العسكري الثانية للدعم جبل أولياء، التي لاتبتعد عن القصر أكثر من 20 كم، وهي المنطقة الوحيدة المتبقية لهروب قوات الدعم من ولاية الخرطوم، إذ تحاصر قوات الجيش الولاية من جميع أطرافها وحدودها، وأبقت منطقة جبل أولياء لاستسلام بقية القوات، أو هروبها.

  ويذهب المراقبون إلى أن الدولة السودانية سوف تعلن عن تشكيل حكومتها الجديدة من قلب القصر الرئاسي خلال أيام من تحرير العاصمة الخرطوم بالكامل، وهو ما يعني تمامًا أن التمرد انتهى كقوات منظمة وما تبقى منه مجرد مليشات منفلتة ومتفرقة سيتم ملاحقتها داخل بعض الولايات باعتبارها عناصر إجرامية، وليس كقوات منظمة تملك مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتقدمة، والطيران المسير.

انتهاكات مستمرة

وفي خطوة وصفت بأنها أعمال إنتقامية ومحاولة للثأر من المدنيين استمرت ميليشيا الدعم السريع في ارتكاب جرائم قتل ونهب وسلب في مناطق سيطرتها، حيث أكدت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ارتكاب قوات الدعم السريع انتهاكات واسعة في أحياء شرق وجنوب الخرطوم، تشمل عمليات قتل ميداني، واعتقالات تعسفية، ونهبًا للمساعدات الغذائية والطبية من المطابخ والعيادات الجماعية. 

كما تلقت المفوضية تقارير عن عنف جنسي في منطقة الجريف غرب، فيما اتهم المتحدث الرسمي سيف ماغانغو القوات باستخدام المدنيين كدروع بشرية في محاولة لعرقلة تقدم الجيش.

و في سياق متصل أكدت منظمة «يونيسيف» قيام قوات الدعم السريع بنهب إمدادات إغاثية بجنوب الخرطوم مما يعرض حياه 100 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد لخطر الموت.

  وشملت المواد المنهوبة 2,200 صندوق أغذية علاجية، ومكملات غذائية لـ6,000 امرأة حامل ومرضعة، وحقائب طبية لمساعدة أكثر من 130 ألف من الأمهات وحديثي الولادة.

  وأنتجت عمليات التمرد على الجيش والدولة السودانية واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية عالمياً، حيث يعاني 4 ملايين طفل دون الخامسة ونساء حوامل من سوء التغذية، 64% من السكان (30.4 مليون) يحتاجون مساعدات عاجلة، و24.6 مليون يواجهون جوعاً شديداً رغم توفر الغذاء تجارياً، بسبب عمليات التدمير الواسعة التي قامت بها قوات التمرد لتشمل جميع المؤسسات الخدمية سواء كانت صناعية أو زراعية أو في مجال البنية الأساسية. 

  وهكذا يبدو أن قوات الدعم السريع قد نفذت خطة منظمة خلال العامين الماضيين لتدمير الدولة السودانية، حيث تعمدت احتلال مؤسسات الدولة وتخريبها والاستيلاء على بيوت المواطنين ونهبها، وتدمير محطات الكهرباء ومصفاة الجيلي الكبرى بالبلاد، وإعادة الحياة في السودان إلى ما قبل التاريخ، وهو ما يضع تحدي كبير أمام الجيش والشعب السوداني في إعادة عجلة التاريخ مرة أخرى خاصة وأن جميع المؤشرات تدل على أن السودان وحده هو من سيتحمل أعباء إعادة الإعمار وبناء الدولة من جديد.

*كاتب مصري – نائب رئيس تحرير صحيفة الأسبوع

اترك رد

error: Content is protected !!