
منذ أن قرر محمد حمدان دقلو حميدتى أن يخاطب خصومه عبر الكاميرات أكثر مما يواجههم في الميدان، أصبح خطابه السياسي أقرب إلى عروض الأداء منه إلى البيانات العسكرية. في آخر ظهور له في ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥، خرج متوعدًا «دول الجوار» بالرد على ما سماه «الاعتداءات الجوية» على قواته، في مشهد أقرب إلى محاولة إحياء مجدٍ لم يكن له وجود، وإقناع الذات بأن صدى الصوت في الشاشة ما زال يساوي القوة على الأرض.
اللافت في حديث حميدتي أنه يكرر الأكاذيب نفسها التي فقدت بريقها حتى لدى مؤيديه. فقد زعم في يونيو الماضي أن «الطيران المصري» استهدف قواته في دارفور وكردفان، مستخدمًا طائرات تدريبية صينية الصنع K-8 Karakorum يقودها طيارون مصريون، وقال بالنص فى ٣ يونيو ٢٠٢٥ : «دخلت ٣٢ شاحنة عسكرية مصرية تحمل أسلحة ووقودًا، وطائرات تقصفنا بقيادة طيارين مصريين» .
ورغم أن العالم كله سمع تلك الرواية، لم يُقدَّم حميدتى أي دليل واحد يدعمها، فلا صور أقمار صناعية ولا شظايا ذخائر ولا حتى شهادة مستقلة من الميدان. بل إن توصيفات ميدانية موثقة، منها ما أكد استخدام قوات الدعم السريع لطائرات مسيّرة إيرانية الصنع (مهاجر-٦) في قصف أحياء سكنية بالخرطوم، مع تبرير ذلك بأنه «خطأ فني».
تبدو تصريحات حميدتى استمرارًا لأسلوب قديم في صناعة البطولة من العجز وخلق العدو الخارجي لتبرير الفشل الداخلي. فمنذ تأسيس قوات الدعم السريع عام ٢٠١٣، اعتمد حميدتي على دعم خارجي سياسي ولوجستي سخِيّ لم يتوقف عند حدود المال والسلاح، بل امتد إلى التدريب والإسناد الإعلامي، دون حاجة لذكر جهات الدعم التي يعرفها كل حادب على القضية الوطنية.
واليوم، بعد أن تراجعت رقعة سيطرته الميدانية بنسبة تجاوزت ٧٠٪ حسب تقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية السوداني (أكتوبر ٢٠٢٥)، يحاول حميدتي أن يُقنع أنصاره بأن المؤامرة هي السبب، لا الأخطاء ولا الطموحات غير المحسوبة. لكن ما يثير السخرية حقًا هو أن من يتهم الآخرين بالتدخل الخارجي هو نفسه نتاج مباشر لذلك التدخل منذ لحظة تأسيس قواته. فمن يتحدث عن «السيادة الوطنية» وهو يبني نفوذه على صفقات عبر الحدود، يشبه من يعظ الناس بالتقوى وهو غارق في الغنائم. إنها نسخة حديثة من المثل القديم: لا تنهَ عن خلق وتأتي بمثله.
خطابه الأخير لا يمكن قراءته إلا كغطاء صوتي على إخفاق سياسي وعسكري ممتد. فهو يهدد بضرب مطارات الدول المجاورة وهو عاجز عن حماية طرق الإمداد في مناطقه، ويتحدث عن «الكرامة الوطنية» بينما حول جزءًا من السودان إلى ساحة مفتوحة للقوى الإقليمية يتاجر فيها بالتحالفات حسب المصلحة واللحظة. حتى مفردات خطابه بدت متوترة ومتناقضة، يلوّح بالقوة ثم يتحدث عن حق الدفاع عن النفس ويهدد الآخرين باسم «الشرعية» بينما لا يملك منها سوى ما يُمنح له في الأسافير.
الخطاب الجديد لا يحمل جديدًا في مضمونه، لكنه يكشف عن تطور في حال صاحبه. لم يعد حميدتي يتحدث بلسان المنتصر الواثق، بل بلغة من يحاول إقناع نفسه قبل أن يقنع الآخرين. ولعل أكثر ما يثير الشفقة لا الخوف هو تلك الثقة الزائفة التي تحوّل الخسائر إلى بطولات والانسحابات إلى تكتيكات والانهيار إلى «إعادة تموضع».
من المؤكد أن القوات المسلحة السودانية لا تحتاج إلى رد على هذا النوع من التصريحات، فالميادين تتحدث أبلغ من الشاشات. الجيوش تُقاس بأفعالها لا بتهديداتها، وبصبرها لا بضجيجها، بينما تُقاس الميليشيات عادة بعدد المرات التي تضطر فيها لاختراع نصرٍ وهمي كلما خسرت موقعًا جديدًا.
الواضح أن حميدتي يعيش مأزقًا سياسيًا مركبًا، فقد الزخم الذي صعد به وخسر الغطاء الاجتماعي الذي احتمى خلفه، ولم يعد أمامه سوى المنبر الإعلامي ليؤكد أنه ما زال موجودًا. غير أن الصدى لا يصنع حضورًا، والكلام لا يغيّر ميزان القوى، وحتى أنصاره يدركون أن زمن الزعيم العفوي الذي يخاطب الجماهير من شاحنة في دارفور قد ولى، وحلّ محله شخص يطل من وراء الكاميرا ليهدد الجميع لأنه لا يجد من يحاوره.
ومع كل ظهور جديد لحميدتي، يتأكد أن المعركة الحقيقية لم تعد بين قواته والجيش السوداني، بل بينه وبين الواقع نفسه — واقع لا يتأثر بالصوت العالي، ولا تُغيّره بطولات الشاشة، فكل تهديد يطلقه لم يعد يُقرأ كبيان حرب، بل كصرخة ارتباك من خصمٍ فقد السيطرة على الميدان وعلى المشهد معًا.



