
مع كل عقد يمر من عمر السودان، تتجدد الدماء في نهر السياسة السودانية، التي دائماً ما تحمل تغيرات عميقة في توجهات الفكر السوداني. هذا الفكر، في جوهره، بسيط لكنه شديد التعقيد من حيث التكوين، إذ يعتمد على الفعل البراغماتي البحت، لا بوصفه خياراً عقلانياً فحسب، بل كضرورة وجودية فرضها الواقع السوداني المتقلب. فمنذ بزوغ فجر الحرية في التاريخ المعاصر، وصناعة الفكر السوداني الحديث، شهدت البلاد عدة تحولات فكرية وسياسية، بدأت منذ ثورة ١٩٢٤ التي كانت أول تعبير جماهيري عن الوعي الوطني، مروراً باستقلال السودان في العام ١٩٥٦، الذي كان ثمرة نضج سياسي تبنته النخب السودانية في سياق عالمي يتجه نحو التحرر من الاستعمار.
في تلك المرحلة، تشكلت الشخصية السياسية السودانية على أساس ثوري، متأثرة بالحركات التحررية في آسيا وأفريقيا، فكان السياسي السوداني يحمل خطاباً وطنياً حاداً، يرفض التبعية، ويؤمن بقدرة الشعب على تقرير مصيره. غير أن هذا الخطاب، رغم صدقه، لم يكن مؤسساً على رؤية مؤسساتية أو مشروع دولة واضح، بل كان أقرب إلى رد فعل على الاستعمار، مما جعل المرحلة التالية للاستقلال تتسم بارتباك في تحديد الأولويات، وتضارب في المفاهيم بين بناء الدولة وتوزيع السلطة.
منذ تلك اللحظة، بدأت البراغماتية تتسلل إلى الشخصية السياسية السودانية، لا بوصفها خياراً فلسفياً، بل كوسيلة للبقاء في مشهد سياسي شديد التعقيد. فالنخب التي قادت الاستقلال، سرعان ما وجدت نفسها أمام تحديات لم تكن مستعدة لها: تنوع إثني وثقافي واسع، هشاشة اقتصادية، غياب مؤسسات راسخة، وصراع بين المركز والهامش. في هذا السياق، بدأ السياسي السوداني يتخلى تدريجياً عن الخطاب المثالي، ويتبنى مواقف متغيرة حسب مقتضيات اللحظة، مما أفرز نمطاً من السلوك السياسي يقوم على التكيف السريع، والتحالفات المؤقتة، والتنازلات التكتيكية.
هذا النمط البراغماتي لم يكن دائماً سلبياً، فقد ساعد بعض السياسيين على تجنب الانهيار الكامل، أو تأجيل الصراعات، لكنه في الوقت ذاته ساهم في إضعاف الثقة بين السياسي والمجتمع، إذ أصبح الخطاب السياسي متقلباً، لا يستند إلى مبادئ واضحة، بل إلى حسابات آنية. فشهد السودان منذ الاستقلال سلسلة من الانقلابات العسكرية، والتحولات الأيديولوجية، والانقسامات الحزبية، وكلها كانت تعبيراً عن أزمة في الهوية السياسية، أكثر منها صراعاً حول البرامج أو الرؤى.
الشخصية السياسية السودانية، في جوهرها، تميل إلى التفاوض أكثر من المواجهة، وإلى التسوية أكثر من الحسم، وهي سمة يمكن فهمها في سياق ثقافي واجتماعي يتسم بالتسامح، والمرونة، والقدرة على التعايش. غير أن هذه السمة، حين تُوظف في السياسة دون ضوابط مؤسساتية، تتحول إلى نوع من الانتهازية، حيث يصبح السياسي مستعداً لتغيير مواقفه، وتحالفاته، وخطابه، من أجل البقاء في السلطة أو العودة إليها. وهذا ما يفسر كيف أن كثيراً من السياسيين السودانيين شاركوا في أنظمة متناقضة، أو انتقلوا من المعارضة إلى الحكم، ومن الحكم إلى المعارضة، دون أن يغيروا كثيراً من أدواتهم أو خطابهم.
في العقود الأخيرة، ومع تصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية، وتزايد التدخلات الإقليمية والدولية، أصبحت البراغماتية السياسية أكثر وضوحاً، بل أكثر فجاجة. فغابت الرؤية الاستراتيجية، وحل محلها منطق إدارة الأزمة، لا حلها. وأصبح السياسي السوداني يتعامل مع الخارج بنفس المنطق البراغماتي، فيسعى إلى كسب الدعم الدولي دون الالتزام الحقيقي بالإصلاحات، ويغير مواقفه حسب اتجاه الرياح السياسية، مما أفقده الكثير من المصداقية داخلياً وخارجياً.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال الشخصية السياسية السودانية في البراغماتية وحدها، فهي أيضاً تحمل في طياتها قدراً كبيراً من الذكاء الاجتماعي، والقدرة على قراءة المزاج الشعبي، والتفاعل مع التحولات الثقافية. فالسوداني السياسي، في كثير من الأحيان، لا يتحدث بلغة النخب، بل بلغة الشارع، ويستطيع أن يخلق لنفسه شرعية شعبية حتى في غياب المؤسسات. وهذه القدرة، رغم أنها قد تُستخدم لأغراض غير نبيلة، إلا أنها تعكس جانباً من الحيوية السياسية التي يتمتع بها المجتمع السوداني.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل يستطيع السياسي السوداني أن يعيد تعريف البراغماتية لتكون أداة إصلاح وبناء، لا مجرد وسيلة للبقاء؟ هل يمكن أن تتحول البراغماتية من تكتيك إلى استراتيجية، ومن رد فعل إلى فعل مؤسس؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تتعلق بالشخصية السياسية وحدها، بل بالمناخ العام الذي يحيط بها: هل توجد مؤسسات قادرة على ضبط السلوك السياسي؟ هل هناك ثقافة سياسية تشجع على المحاسبة؟ وهل يمتلك المجتمع أدوات فعالة لمساءلة السياسيين؟
في النهاية، تظل البراغماتية جزءاً لا يتجزأ من الشخصية السياسية السودانية، لكنها ليست قدراً محتوماً. فهي يمكن أن تكون أداة عقلانية في سياق ديمقراطي، ويمكن أن تكون مأزقاً أخلاقياً في سياق سلطوي. وما بين هذين الخيارين، يقف السودان اليوم على مفترق طرق، يبحث فيه عن نموذج سياسي جديد، أكثر صدقاً، وأكثر قدرة على التعبير عن تطلعات شعبه، وأقل ميلاً إلى التلون والتقلب.
٩ اغسطس ٢٠٢٥