(1)
كنتُ من أنصار العمل بالقول السوداني المأثور (الكضاب وصلوه الباب) حين الحديث ما إذا كانت بعثة الأمم المتحدة لدعم الإنتقال في السودان تقوم بدور وساطة كما يقول محللون أم أن دورها سيكون مقتصراً على تسهيل الحوار بين السودانيين كما تقول هي، وكنت أظن أنه بعد أن أصبحت جهودها مشتركة مع جهود الاتحاد الافريقي والإيغاد، ستكون أكثر مهنية وحياداً، فربما يكون الإتحاد الأفريقي قد تبين خطأه الذي ارتكبه في 2019 حين استبدل دستوراً وافقت عليه كل القوى السياسية السودانية بوثيقة سياسية معطوبة أسموها الوثيقة الدستورية، وأن ممثل رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي الذي شارك في ارتكاب ذلك الخطأ قد يعود إلى صوابه ويُرشد هذا “الخواجة الضهبان” إلى سواء السبيل السياسي !!
وكنت أعتقد أن السيد فولكر بيرتس رئيس البعثة الأممية – الممثل الخاص للأمين العام يعني ما يقول حين يصف جهوده واتصالاته التي ابتدرها عقب فض الشراكة بين المكونين المدني والعسكري في 25 أكتوبر 2021، بأن بعثته وشركاءها الإقليميين ليسوا وسطاء بين السودانيين، وإنما هم مسهلين للحوار بينهم، لكن سلوك البعثة منذ مجيئها وما تكشف خلال الأيام الماضية مما سمي بالدعوة الثلاثية المشتركة (البعثة الأممية والإتحاد الافريقي والإيغاد) لجلسات حوار كان من المفترض أن تبدأ أيام (10- 12 مايو)، وما صاحب تلك الدعوة من غموض وتكتم على صفات المشاركين فيه، وما رشح بعد ذلك من قائمة “الشخصيات السودانية البارزة” جعلني أفقد الأمل في عودة اليونيتامس إلى الجادة !!
(2)
في يونيو 2020 اعتمد مجلس الأمن الدولي قراره بالرقم 2524 بإنشاء بعثة أممية لدعم الإنتقال في السودان تحت البند السادس، وحدد مجلس الأمن مهام بعثة “يونيتامس” بالمساعدة على انتقال السودان إلى الحكم الديمقراطي، ودعم حماية وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام، ودعم عمليات السلام وتنفيذ اتفاقياته، والمساعدة على بناء الحماية المدنية وسيادة القانون في جميع أنحاء البلاد، بالتركيز على دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق؛ فضلاً عن دعم تعبئة المساعدات الإقتصادية والإنمائية، وتنسيق عمليات المساعدة الإنسانية المقدمة للسودان. فما الذي أنجزته البعثة من هذه المهام أو وضعت أسسه السليمة، وقد مضى على تكليفها ما يقارب العامين ؟
منذ مباشرتها مهامها اختارت البعثة أن تغض الطرف عن كل الخروقات التي تعرضت لها "الوثيقة الدستورية" وعن كل الإنتهاكات والتجاوزات للحقوق الأساسية للسودانيين، وعن إهمال بناء مؤسسات الإنتقال وعلى رأسها أجهزة العدالة المستقلة، والمفوضيات التي نصت عليها وثيقة الاتفاق السياسي، ورأينا كيف أن المؤسسات الصحفية يتم إغلاقها والسياسيين المعارضين يقمعون ويسجنون بلا تهم وكيف تصادر الملكيات الخاصة، يحدث كل هذا بينما تقف البعثة موقف المتفرج ولا يفتح الله عليها بالقول جهراً أن هذا ليس من العدالة أو الحرية في شيء !!
وبدلاً من أن تفتح البعثة أبوابها لجميع الفاعلين السياسيين في السودان وتسهم في توحيد رؤاهم بشأن قضايا الانتقال، وعلى رأسها إرساء السلام الشامل و معالجة أوضاع الإقتصاد، تواطأت البعثة مع فئة قليلة من السودانيين لكي تتحكم بهم في مسار الفترة الإنتقالية، واختارت أن تذهب أكثر من ذلك بأن ترسم مستقبل السودان السياسي والإجتماعي على النحو الذي يخالف أسس العدالة ومنطق الأشياء !!
قد يكون مفهوماً إن كان الذي يقوم بمثل هذه الأدوار هو سفارة الولايات المتحدة أو أية سفارة غربية في الخرطوم، فالأجندة الغربية في السودان معروفة منذ قديم الزمان، لكن أن تتبنى البعثة التي تمثل الأمم المتحدة منهجاً إقصائياً يقسم السودانيين على أساس اللون السياسي وأن تحاول هي تفصيل مواصفات الإنتقال على النحو الذي يختار داعموها مواصفاته، وتصم أذنيها عن سماع أصوات طيف واسع من القوى السياسية والمجتمعية السودانية، وترخيهما لسماع أصوات آخرين، فهذا ما يخالف ميثاق المنظمة الدولية نفسه وبالضرورة يخالف تفويض البعثة.
(3)
الانتقال الذي يفهمه الكافة، والمستقر في التجارب السودانية والأعراف الدولية، والذي جاءت اليونيتامس لأجله، هو الانتقال من الوضع السياسي الذي كان قائماً قبل 11 أبريل 2019 ، والموصوف بأنه مأزوم إقتصادياً ومحاصر دبلوماسياً ويسيطر عليه ويتحكم فيه حزب واحد، إلى وضع جديد منفرج إقتصادياً ومنفتح دبلوماسياً ومتعدد سياسياً، يهيئ البلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة يختار فيها السودانيون من يتولى حكمهم، وحينها – بطبيعة الحال – سينتهي دور البعثة وتغادر. لكن يبدو أن البعثة ومن يقفون وراءها قرروا سلفاً أنها ستبقى إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأن مهامها الحقيقية لا علاقة لها بانتقال طبيعي إلى وضع ديمقراطي في وقت معلوم، وإنما بانتقال يتم تخليقه وزرعه في رحم التربة السودانية، والتحكم في جيناته الوراثية !!
إن الانتقال الطبيعي لا يكون إلا بمشاركة جميع القوى السياسية والمجتمعية والمدنية السودانية، دون استثناء، وتمكينها من المشاركة في صنع ملامحه وإبداء وجهات نظرها في الكيفية التي ينبغي أن يتشكل بها مستقبل السودان، وفي تحديد مهام الفترة الإنتقالية وكيفية إدارتها حتى تنتهي إلى الإنتخابات، وهذا بطبيعته يقتضي أن تحتفظ البعثة الأممية بمسافة واحدة من جميع القوى السياسية والمجتمعية، خلافاً لما هي عليه الآن، حيث تقول الشئ وتفعل نقيضه.
(4)
من المؤكد أن السيد فولكر بيرتس يعرف أن غالب السودانيين يتوجسون من تكرار تجاربه الفاشلة السابقة، ولعله لهذا سبق وأن نفى أنه جاء لمهمة مؤداها تفتيت السودان وتقسيمه، وبرر ذلك بأن القوى الدولية من مصلحتها وجود سودان آمن ومستقر، لكن يبدو أننا حين النظر إلى أفعال ممثل الأمين العام سنكتشف أنه يمارس “التقية” السياسية ويحاول أن يتجمّل للسودانيين بينما هو يفعل خلاف ما يقول، وأن المهمة الحقيقية له هي زرع الفتنة المُفضية إلى تفتيت السودان، وإلا فكيف نفسر إصراره المستميت على ممارسة العزل والإقصاء السياسي للقطاعات الأوسع من القوى السياسية المدنية، وقوله في تقاريره الرسمية أن المكون العسكري منقسم على نفسه ؟
إن التفسير الأرجح لكل هذا هو أن رئيس بعثة “اليونيتامس” منهمك في زرع بذور الفتنة بين القوى السياسية السودانية وفي نفس الوقت بين القوى العسكرية الحاملة للسلاح، بحيث يؤدي ذلك كله إلى إشعال فتنة واقتتال أهلي، وهو يعرف أن هذا إن حدث – لا سمح الله – فإن نتيجته الحتمية هي تحويل وضع بعثته من البند السادس إلى البند السابع والسماح بالتدخل العسكري الدولي ومن ثم تقسيم السودان إلى دويلات !!
• كاتب صحفي وسفير سابق