من اعماقي / د. امجد عمر

“الوعي المالي: بوابة الاتزان والحكمة في زمن الاستهلاك”


بقلم: د. أمجد عمر محمد

في زمن تتسارع فيه الرغبات وتتشابك فيه المفاهيم بين الرفاهية الحقيقية والوهم المؤقت، يغدو الوعي المالي ضرورة لا ترفًا. فالمسألة لا تتعلق بالثراء أو الفقر بقدر ما ترتبط بفهم أعمق لطبيعة المال ودوره في حياة الإنسان.

إن إنفاق المال في سبيل متعة آنية قد يمنح لحظة من اللذة العابرة، لكنه لا يبني مستقبلًا، ولا يحقق استقرارًا. فما يلبث الإنسان أن يفيق من نشوة الإنفاق حتى يدرك أن ما ظنه سعادة لم يكن سوى سراب. الندم يأتي سريعًا حين يُستنزف المال في ما لا يبقى ولا يُثمر، بينما الاحتياج الحقيقي يتفاقم مع مرور الوقت. وقد نهى الله تعالى عن هذا السلوك بقوله:
“إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ”
– سورة الإسراء، الآية 27
فالتبذير في غير موضعه، هو إسراف يضيع المال ويهدر النعمة.

وفي هذا السياق، يحاول البعض تقليد الأثرياء في مظاهرهم، غير مدركين أن القدرة المالية تختلف من شخص لآخر، وأن القناعة والبساطة ليست فقط مظهرًا من مظاهر الذكاء المالي، بل هي أناقة راقية تنبع من الداخل. فالمظهر لا يجب أن يتفوق على الجوهر، ومن الخطأ أن يُرهق الإنسان نفسه في ملاحقة صورة لا تعكس حقيقته.

أما التباهي والتفاخر بالمال، فقد ذمه الله عز وجل في كتابه الكريم، فقال:
“وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”
– سورة لقمان، الآية 18
وقد جاء في الحديث الشريف:
“كلُّكُم راعٍ، وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّتِه”
– رواه البخاري ومسلم
وما المال إلا من الأمانات التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة: من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟

ومن الأخطاء المتكررة أن يسدد البعض دينًا بآخر، فيدخلون في حلقة مفرغة من الالتزامات تتكاثر دون نهاية. من سدد دينًا بدين ما قضى دينه، بل زاد همه وتعقيداته. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:
“مَن أخذ أموال الناس يُريد أداءَها، أدَّى الله عنه، ومَن أخذها يُريد إتلافَها، أتلفه الله”
– رواه البخاري
فالمديونية ليست وسيلة للحل، بل اختبار لحسن التدبير والصبر.

وأخيرًا، لا ينبغي للإنسان أن يعتمد على راتبه وحده، فالدخل الثابت مهما بلغ لن يمنح الأمان الكامل. لا بد من التفكير في مصادر إضافية، مشاريع صغيرة، أو مهارات قابلة للتطوير يمكن أن تعود بالفائدة. الاجتهاد في إيجاد مورد آخر هو ما يصنع الفرق بين من يستهلك ومن يبني.

إن المال، في جوهره، وسيلة لا غاية، أمانة لا زينة، وخادم لا سيد. والوعي به، ترشيدًا وتخطيطًا، هو ما يصنع الإنسان المتزن في زمن يغريه بالتيه.

اترك رد

error: Content is protected !!