بقلم : عقيد بحري ركن (م)
د. اسامة محمد عبدالرحيم
حدثنا القرآن في آياته وقصصه كثيراً عن ابتلاء الله لعباده بالآفات والكوارث ومظاهر الطبيعة من فيضانات ورياح وغيرها، إمّا عقاباً او تمحيصاً واختباراً وأخذاً للعباد من مصاف الظلم والضلال الى مواطن العدل والهداية بما يضعهم على طريق الحق ومستقيم الصراط.
الحشرات واحدة من أكثر الآفات التي ابتلى الله بها خلقه في الحياة فأرسل على أمم سابقة الجراد والقُمَّل وكذلك أرسل الضفادع والدَّم، عقاباً لهذه الأمم على استكبارها وحسماً لاستمرار جرمها، أمّا وقد انقطع وحي السماء عن الأرض بعدما ختمت الرسالة واكتمل الدين واتم الله نعمته علينا فقد بقي بين أيدينا من الهدى والفرقان ما يبصرنا بمواقع اقدامنا خطواً في مسيرة الحياة، علّنا نهتدي ونفوز.
تعتبر (الأرضة) او ما يعرف ( بالنمل الأبيض Termite) و التي هي نفسها (دابّة الأرض) المذكورة في قصة سيدنا سليمان كما ورد في القرآن الكريم وفقاً لبعض التفاسير ، هذه الحشرة الصغيرة من الآفات الحشرية المعروفة التي تؤذي الانسان بما يستوجب ضرورة مواجهتها ومكافحتها حتى التخلص منها ومنعاً لتكاثرها في البيئة الحضرية لما يمكن ان تسببه هذه الآفة من اضرارٍ وخسائر وتخريب.
ربما ارسل الله آفته هذه المرة لأهل السودان اختباراً وتمييزاً وتمحيصاً ولحكمة يعلمها هو وحده جل وعلا، على هيئة هذه المليشيا المتمردة، تَدُبُّ في أرض السودان تهلك الحرث والنسل وتخرب وتدمر وتسرق وتنهب وتغتصب وتفعل كل موبقة و تؤذى ولا تترك لذي عقل أو ضمير متاحاً من حسن الظن، ولا أدري لم انعقدت في ذهني هذه الصورة للمقارنة والمطابقة والمشابهة ما بين هذه (المليشيا المتمردة) و(الأرضة) ، حشرة الأرض ودابتها المؤذية الفتاكة و التي تقضي على كل ما هو مفيد ومستخدم من قبل الإنسان اثأو النبات او الحيوان.
فمما عرف عن حشرة الأرضة انها كائنات اجتماعية تعيش، وتنشأ في شكل مستعمرات حشرية منظمة تقوم على الحشد في اعداد كبيرة لا تقل عن ثلاثين الف حشرة وقد تصل الى اكثر من مليونين، وهذا نفسه هيئة تنظيم المليشيا المتمردة في تشكيلاتها العسكرية والتي تعتمد على الكثرة وليس النوع وهذا ما يجعل المليشيا المتمردة تعمل وبشكل استراتيجي و تكتيكي على استعواض نقصها العددي عقب كل معركة ومرحلة من مراحل القتال من الحواضن المحلية والمجتمع المحلي في اماكن انتشارها او من وراء الحدود قريبها وبعيدها من افريقيا او الشام والخليج أو حتى من امريكيا اللاتينية جلباً للمرتزقة ، و لكن كان لابد لهذه الدابة الآفة من بيئة صالحة لتناسلها ونموها تكاثرها.
فقد عرف عن الأرضة انها تفضّل وتنتشر وتنمو في البيئات والاماكن الرطبة والمظلمة قليلة التهوية، وبالمقاربة مع المليشيا المتمردة نجد ان الأماكن المظلمة قليلة التهوية والمستنقعات عالية الرطوبة توفر لها بيئة مثالية بما أسهم في نموها وتضخمها متمثلة في الآتي:
- بيئة محلية تمظهرت في اقتتال وحروب في دارفور وصراع الهامش والمركز ومحاججات اقتسام الثروة والسلطة والبحث عن الحرية والعدالة والمساواة بالحق او بغيره وكافة المظالم التأريخية ببعديها السياسي والاجتماعي والتي كانت سبباً اساسيا في تهيئة بيئة صالحة لإنشاء وتأسيس هذه المليشيا المتمردة وتعهدها بالرعاية والدعم.
- بيئة اقليمية، اخذتها للقتال في اليمن برفقة دولتي الامارات والمملكة العربية السعودية في سباق السيطرة والتنافس الإقليمي وصراع السنة والشيعة وضد تمدد إيران وتهديد الحوثيين مما فتح لها وعليها أبواب الدعم المادي والفني الاقليمي فطور من قدراتها المادية والاقتصادية فقويت مالياً وعسكرياً. ثم لم تلبث طويلاً حتى اصبحت أداة ومخلباً في يد رعاتها تنشب أظافرها في جسد وطنها وشعبها.
- بيئة دولية جمعتها في مرحلة لاحقة بالإتحاد الأوروبي و الذي دعمها بامواله تحت مظلة الإسهام في محاربة الجريمة العابرة وتهريب البشر ومكافحة المخدرات، الأمر الذي قواها وحسّن من صورتها تزويراً وتغبيشا للحقيقة.
كما أنّ الأرضة دوما تعيش وتنمو في الظلمات بعيداً عن أشعة الشمس والنور أينما كان، كذلك ظلت المليشيا المتمردة تنمو وتكبر في ظل غموض وتخفية متعمدة تلازم انشطتها بحماية السلطان ورعايته أيا كان مقصده ونيته مما أورثنا كائناً مشوهاً شكّل و لا زال يُشكّل خطراً على المواطن وسلامة السودان ووحدة اراضيه بالقتال والمحاربة بغير حق وبغير شرعية.
عُرِف كذلك عن الأرضة أنها تعتمد في تغذيتها على مادة (السيليلوز) وهي مادة تتوفر في الخشب والورق والكرتون والمنسوجات وكذلك النبات، وهو الأمر الذي يجعل هذه الحشرة الآفة تهاجم الابواب والشبابيك والاثاث و الحوائط والجدران وسوق النبات، كما يجعلها تهاجم مخزون بعض المحاصيل ومواعين التخزين والتعبئة وكثير مما يستخدمه الانسان في ما حوله من اشياء تعينه في حياته، وعوداً للمقاربة والمشابهة فقد تأسست المليشيا المتمردة وتحصّنت بالقوانين في مرحلة من نموها من قبل النظام الحاكم وقتها بما جعلها تتغذى من موارد السلطة وأموالها سليلوزاً حراماً محروسا بالتجييش و ثالتسليح فغدت في وقت ليس بطويل قوة اجتماعية واقتصادية وعسكرية وسلطة حاكمة متضخمة تحتاج لما يغذيها ويشبع بطنها يوم بعد يوم الامر الذي لم يحصل بسبب التوسع المستمر في الحجم والكم مما ولّد عندها حاجةً ونهماً مستمرين يوازي هذا التمدد الخبيث.
هذا ما كان قبل حرب 15 ابريل، ولكن بعد اندلاع الحرب، وبعدما فقدت المليشيا المتمردة شرعيتها وحُرمت من تغذية الدولة وسلطتها ، لم تتردد ولغياب العقيدتين العسكرية و القتالية السليمتين وبالتالي غياب الوازع الاخلاقي الذي جعلها تخالف القانون والضمير ، فضربت المليشيا المتمردة في الأرض قتلاً ونهباً واحتلالاً لبيوت الناس وأملاك المواطن ومرافق الدولة بما يعرف بالأعيان المدنية تاخذ منها وتستولي على كل شئ تشبع بها جوعتها وتسد بها رمقها تعويضاً عن السيليوز عساه يكفيها ويغذيها ويطيل عمرها. وهنا نلحظ ما يمكن ان تسببه دابة الأرض الحشرة الآفة (الأرضة) من دمار وتخريب اقتصادي وغذائي وما سببته وتسببه المليشيا المتمردة من تدمير وخراب أمني واجتماعي ومادي ويضطر الجميع للنزوح واللجوء الى البراحات الآمنة والمستقرة الى حين إنتهاء هذه الأزمة بالقضاء على هذه الآفة.
القضاء على هذه الآفة ومكافحتها يكون بوسائل يعرفها الخبراء والمختصون، واخرى متعارف عليها في المجتمعات البسيطة وبشكل بدائي كلما ظهرت هذه الحشرة الآفة. ويعتمد ذلك وبشكل كبير على جملة من الاجراءات والاعمال تحدد نوع الارضة ومصادرها وموارد تغذيتها وطبيعة بيئتها المحيطة بالتالي تحدد اماكن تواجدها وانتشارها. ثم وبالمطابقة مابين مكافحة الأرضة ووضع المليشيا وسبل مكافحتها نجد تشابهاً كبيراً يتمثل في وجود استراتيجيات وتكتيكات متكاملة ومتقاطعة لاجل محاصرتها والقضاء عليها يتبع ذلك بعض الترتيبات. وعليه يمكن ان نلخص المقارنة في مكافحة هذه الحشرة الآفة في الآتي:
- تشخيص وتحديد أماكن الأرضة، ويقابله العمل الاستخباري المهم لجمع المعلومات بما يفيد مجموعة القيادة والسيطرة في تنفيذ خطة العمليات الحربية.
- ازالة مصادر غذاء الأرضة، ويقابله كل ما يلي عمليات قطع خطوط الامداد والاتصال للمليشيا المتمردة في اماكن تجمعاتهم او انتشارهم او حركتهم وأماكن التحشيد والتجمع والإركاب، ولعل هذا احد اهم العناصر (قطع خطوط الامداد) الذي يؤدي اذا ما نجح فيه الجيش الى تقصير امد الحرب والتحوّل من عمليات عسكرية الى عمليات امنية لازالة جيوب العصابات والمجرمين والمتفلتين ومخالفي القانون وبالتالي القضاء على المليشيا المتمردة.
- منع تجمع الرطوبة واصلاح اي تسريبات رطبة في محيط تواجد الأرضة، ويقابله محاصرة المليشيا المتمردة في مواقع انفتاحها ومقرات قياداتها وعزلها عن السكان المحليين ما أمكن ذلك خاصة في مواقع حواضنها الاجتماعية.
- تهوية المكان وتحسين حركة الهواء حول اماكن تواجد الأرضة، ويقابله إحكام حركة قوات الجيش ونظام إمداده واتصالاته وحركة قيادته وسيطرته، كما ان الامر قد يشمل كل النشاط الاعلامي محليا ودولياً وكذلك النشاط السياسي والدبلوماسي في كافة المحافل بما ينشر الوعي ويدعم قضية البلاد ويحاصر نشاط المليشيا المتمردة ومن خلفه الرعاة والداعمين لها في الداخل والخارج، كذلك يتضمن ترتيبات القيادة السياسية والعسكرية في ادارة الدولة وتسيير دولاب العمل بشكل صحيح و مواكب.
- الحواجز الكيمائية حول اماكن تواجد الأرضة واستخدام طعوم كيمائية باستخدام المبيدات، ويقابله كافة العمليات القتالية التي يمكن يقوم بها الجيش ضد المليشيا المتمردة من تطويق وإحاطة وتلغيم وحرب إلكترونية والسيطرة بالقوات والسلاح.
- الرش المباشر لتجمعات الأرضة بالمبيدات، ويقابله كافة الأعمال القتالية للجيش من قصف مدفعي او جوي واشتباك بالنيران وما يتبع ذلك من عمليات برية وإنزال جوي، عمليات الإبرار النهري والمناورة بالقوات ومجموعات القوات الخاصة.
- استخدام الطرق الفيزيائية والمعالجات الحرارية لقتل الأرضة، ويقابله تحسين اداء الجيش نحو كثافة النيران والقوة التدميرية الكبيرة ودقة وجودة الاصابة.
- ازالة مستعمرات وأعشاش الأرضة ، ويقابل ذلك تدمير الجيش لمقرات ومراكز القيادة ومعسكرات المليشيا المتمردة.
- استخدام العوازل الكيميائية كوضع طبقة من الرمل او المعدن او حفر الخنادق لمنع وصول الارضة الى كثير من الاماكن، ويقابله كافة الاعمال التي تمثلها العمليات الهندسية والفنية (من قبل عناصر الهندسة) من تلغيم او نزع الالغام ومن تتريس او خنادق او فتح مسارات وخلافه.
كما أن لها مضار جمة وهي الغالبة ، نجد ان للأرضة كذلك فوائد تنحصر في تحليلها لبعض المواد العضوية، وتحسين التربة بتحسينها لتهويتها وقدرتها على الإمتصاص، كما تعتبر الأرضة مصدراً لغذاء بعض الحيوانات والطيور والزواحف مما يحقق التوازن البيئي، وبالمقارنة والمشابهة كذلك نجد ان المليشيا المتمردة وبما قامت به من أعمال وأفعال قد انتجت واقعاً مفيداً في المجتمع السوداني :
- هذا الاصطفاف والسند والدعم والتلاحم الكبير والوثيق بين الجيش والشعب، وهو امر كانت قد ضيعته الممارسات السالبة التي صاحبت أحداث ثورة ديسمبر وسقوط نظام الانقاذ ومعاداة قطاع كبير من الشعب السوداني للجيش.
- تمايز الصفوف وفضح نوايا وممارسات الكثيرين من الافراد والقيادات و القطاعات السياسية المدنية والعسكرية التي اصطفت وتراكمت الى جانب المليشيا وارتمت في احضان الأجنبي وتبنت اجندته وأهدافه على حساب كرامة الشعب وسيادة وامن وسلامة واستقرار البلاد.
ان من يحلمون بدور مستقبلي للمليشيا المتمردة في حياة السودانيين، افراداً كانوا او جماعات، و أياً كان هذا الدور المنشود سياسياً او اجتماعياً او اقتصادياً او عسكرياً او امنياً، انما هم كمن يرضى بمشاركة الأرضة له مسكنه ومتجره مزرعته ومكتبه ومعيشته وسائر نشاط حياته، لتعمل فيه إفساداً وتخريباً.
إنّ المليشيا وبما كسبت ايديها قد ذهبت بعيداً بتأشيرة خروج بلا عودة من حياة السودان الآمن والمستقر. كما ان من يحبون ان تشيع فينا أرضة المليشيا وتنتشر، هم من ماتت قلوبهم وضمائرهم وتغذت عقولهم بالمرض وضلال الفكر كما عميت بصيرتهم وأظلمت أبصارهم، هم أنفسهم من يظنون بالجيش ظن السوء، عليهم دائرة السوء.
ختاماً نقول، لعلّ السودان وأهله ليسو استثناءً من امر الله وسننه، فابتلاهم بهذه الحرب اللعينة تمحيصاً وتقويماً، عسى أن يرجعون إليه ، ونسأله تعالى ان يكون ذلك كله اختباراً وليس عقاباً محبةً منه على طريق المغفرة والأجر عوضاً جزيلاً في الدنيا والآخرة ووعياً بأمر ديننا ودنيانا لبناء غدٍ مشرق وزاهر.
د. اسامة محمد عبدالرحيم
14 ديسمبر 2024