غيب الموتُ في هدوءٍ وسكينةٍ، وترتيباتٍ دقيقةٍ، الملكة إليزابيث الثانية، واسمها الكامل إليزابيث ألِكسندرا ماري (Elizabeth Alexandra Mary), وعلِم العالم هذا النبأ الحزين، من خلال تصريحٍ صحافيٍ صدر من قصر باكنغهام (مقر إقامة الملكة في لندن)، أن الملكة إليزابيث الثانية، أطول ملوك بريطانيا بقاءً في الحُكم، تُوفيت عن 96 عاماً.
كانت الراحلة إليزابيث الثانية الملكة الدستورية لأربع عشرة دولة من مجموع ثلاث وخمسين من دول الكومنولث التي ترأستها. كما كانت ترأس كنيسة إنجلترا الأنجليكانية. مما يدحض غلاة العلمانيين الذين يطالبون بفصل الدين عن الدولة!
من المهم بدءاً، الإشارة إلى أن “ملكوت الله” الذي عنونتُ به هذه العُجالة الرثائية للملكة إليزابيث الثانية، تجد الأناجيل تشير إليها كثيراً، مثل مرقس ولوقا، بالإضافة إلى مواضع أخرى في العهد الجديد، مثل أعمال الرسل رومية وكورنثوس الأولى. فإن ملكوت الله، مرادفٌ بملكوت السماء. ويأخذ مفهوم ملكوت الله معانٍ كثيرةٍ في المقاطع المختلفة في الكتاب المقدس. وإن ملكوت الله، بصورةٍ عامةٍ، هو ملك الله الأبدي الأزلي على كل الكون، وهو مفهوم أساسي من مفاهيم المسيحية، وهو المحور الرئيسي لرسالة يوحنا المعمدان، ويسوع المسيح في الإنجيل. ترد عبارة ملكوت الله أو ملكوت السموات في العهد الجديد أكثر من مائة مرةٍ، وقد شرحها يسوع مراراً مستخدماً الأمثلة.
أحسبُ أنه من الضروري، أن نبسط القول، في هذه العُجالة عن جواز تعزية غير المسلم في ميته، فقد نص أهل العلم على جواز تعزيته في ميته. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس في تعزية أولئك المسيحيين في كنائسهم أو في بيوتهم، إذ لم ينطوِ ذلك على محذورٍ شرعيٍ. وقول أكثر أهل العلم بجواز ذلك، وهناك الكثير من السلف الصالح قد عزى غير المسلمين. والقول بجواز تعزية غير المسلم عموماً، هو رواية عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وهو قول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وقول أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وغيره، شرط ألا يكونوا محاربين، وخصوصاً إن كان في ذلك تأليف قلوبهم، أو دفع ضررهم وأذاهم.
ومما يمكن الاستشهاد به على جواز ذلك أنه: (كان غلامٌ يهوديٌ يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمرض، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: (الحمد الله الذي أنقذه من النار). أخرجه البخاري.
وأردتُ أيضاً أن أُؤصل ما ذهب إليه بعض أهل العلم، إلى أنه يجوز الترحم على غير المسلم، لأن غير المسلم يكون في ضحضاحٍ من النار، ولولا هذا الترحم قد يكون في الدرك الأسفل منها. فالترحم غير الاستغفار لغير المسلم المنهي عنه، والترحم جائز وليس فيه غضاضة، بل هو فيه إظهار لعظمة رحمة الله، وأنها وسعت كل شيءٍ.
وقال الشيخ أحمد الغامدي الداعية الإسلامي إنه يجوز الترحم على غير المسلم، لأنه ليس استغفاراً. وقد فرق الله سبحانه وتعالى بينه وبين الترحم، وإنما نهى عن الاستغفار، لقوله تعالى: “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ”، وإنما نهى عن الاستغفار فقط.
وأضاف الشيخ الغامدي قائلاً: “أما الرحمة فهي أوسع، رحمة الله وسعت كل شيءٍ، وليس مقتضى الرحمة أن يخرج الكافر من النار أو أنه يدخل الجنة، وإنما تكون بالتخفيف من عذابه، كما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمه، قال قل نفعت عنك بشئ، فقد كان يُدافع عنك؟ قال نعم هو في ضحضاحٍ من النار ولولاي لكان في الدرك الأسفل منها..”.
اتفق أهل العلم على عدم جواز تعزية الكافر المحارب للإسلام. أما الكافر غير الحربي فجمهور أهل العلم على جواز تعزيته، ومن أهل العلم مَنْ توقف فيها، ومنهم مَنْ منعها، أو أذن فيها للمصلحة أو رجاء إسلامه.
والصحيح هو رأي جمهور أهل العلم القائل بالجواز مطلقاً، لأن ذلك من البر الذي لم ننه عنه، كما قال تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”.
أما ففي فقه الأقليات المسلمة، سعة في الأمر، إذ أن هنالك العديد من الفتاوى في هذا الصدد، أصدرها المجلس الأوروبي للبحوث والافتاء، برئاسة الشيخ الدكتور يُوسُف عبد الله القرضاوي. فالمسلمون في تلكم البلدان جزءٌ لا يتجزأ من مجتمعاتها. فمسلمو بريطانيا لاريب أنهم في حُزنٍ وأسىً لوفاة ملكيتهم، فلذلكم يجوز لهم الترحم عليها.
في رأيي الخاص، أن رحيل الملكة إليزابيث الثانية يوم الخميس 8 سبتمبر (أيلول) 2022، لم يكن رحيلاً حزيناً للشعب البريطاني فحسب، بل أحزن كثير من شعوب العالم وحُكامهم، إذ أنها عُرفت بأنها صاحبة شخصية محترمة ومحبوبة في جميع أنحاء العالم. لم تعرف صحافة التابلويد، ذات الإثارة الصارخة، وناشرة الفضائح الصاخبة، إليها سبيلاً طوال حُكمها المديد لبريطانيا، حتى أن البريطانيين الذين كانوا يطالبون بإزالة الحُكم الملكي، لها عندهم احترامٌ وتبجيلٌ، فهي كانت تملك قلوب البريطانيين، وليس عرشهم فقط!
لم يعرف البريطانيون طوال سبعة عقود سوى الملكة إليزابيث الثانية. فلا غروّ أن عبروا عن مشاعر الحُزن الأليم لرحيلها، وهرعوا زُمراً وفُرادىً مثل ما يدعو الحجيج الموسم إلى قصر باكنغهام، للتعبير عن حُزنهم الفياض، ويواسون أسرتها لهذا الفقد الجلل، ويدعون لإبنها أن يحفظه الله (God save the king).
ومن المعلوم، أن الملكة إليزابيث الثانية، لم يكن من المفترض أن تصبح ملكة على الإطلاق، إذ أنه من المفترض أن يصبح عمها إدوارد الثامن ملكاً، ولكنه تنازل عن العرش لصالح أخيه جورج السادس والد إليزابيث، من أجل أن يتزوج إمرأة أميركية، فُتن بها فضحى في سبيل حبه بالعرش!
كانت الراحلة الملكة إليزابيث الثانية صاحبة أطول فترة حُكم في بريطانيا. ولدت إليزابيث في 17 شارع بروتون بلندن في 21 أبريل (نيسان) 1926، وعُمّدت في 29 مايو (إيار) من ذلكم العام في الكنيسة الخاصة بقصر باكنغهام. وأصبحت وريثة عندما تنازل عمها إدوارد الثامن في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1936 وأصبح والدها الملك جورج السادس، على الرغم من أن وراثة المُلك في بريطانيا بالبنوة وليس بالإخوة! وكانت تبلغ من العمر 10 سنوات. وتزوجت من الملازم البحري فيليب مونتباتن، وهو أمير يوناني، في كنيسة وستمنستر بلندن في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947. وأنجبا أربعة أطفال: الأمير تشارلز (مواليد 1948) والأميرة آن (1950) والأمير أندرو (1960) والأمير إدوارد (1964). توفي فيليب في أبريل 2021 عن عمر يناهز 99 عاما. واعتلت العرش بوفاة والدها في 6 فبراير (شباط) 1952، بينما كانت في كينيا في جولة ملكية. وتوجت في 2 يونيو (حُزيران) 1953 في وستمنستر أبي، أول تتويج على الإطلاق بُث على التلفزيون.
عندما اعتلت العرش، كان جوزيف ستالين وماو تسي تونغ وهاري ترومان رؤساء للاتحاد السوفياتي والصين والولايات المتحدة الأميركية، بينما كان ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا.
وفي 9 سبتمبر (أيلول) 2015، تجاوزت 63 عاماً و 7 أشهر ويومين و 16 ساعة و 23 دقيقة قضتها جدتها الكبرى الملكة فيكتوريا على العرش لتصبح أطول فترة حكم في البلاد في خط المواعدة العودة إلى الملك النورماندي ويليام الفاتح عام 1066. وقد زارت العديد من دول العالم من بينها السودان في عام 1965.
واحتفلت الراحلة الملكة إليزابيث الثانية بيوبيلها البلاتيني – الذكرى السبعين- في 6 فبراير 2022، وخلال فترة حكمها، التقت 14 رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
أخلص إلى أن وفاة الملكة إليزابيث الثانية بالنسبة لبريطانيا، كوفاة قيس بن عامر المنقري في قومه والذي رثاه الشاعر عبدة بن الطبيب قائلاً:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمة
إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بُنيان قوم تهدّما
وعلى الرغم من فاجعة الوفاة وفُجاءتها، ألا أن ترتيبات نقل المُلك إلى وريثها، كبير أبنائها تشارلز فيليب مونتباتن، كانت سلسة في غير اضطرابٍ وعُسرٍ، فقد أُعلن الأمير تشارلز أمس (السبت 10 سبتمبر (أيلول) 2022، ملكاً على المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية، وسط إجراءاتٍ طقوسيةٍ، تعود إلى القرون الوسطى. وتسمر ملايين المشاهدين على شاشات القنوات الفضائية لمتابعتها دون ضجرٍ أو مللٍ. فأصبح الأمير تشارلز، الملك تشارلز الثالث. فتشارلز الأول أُعدم في عام 1649، بعد انتصار البرلمانيين بقيادة أوليفر كرومويل على الملكية، وإعلان الجمهورية التي لم تدم طويلاً، حيثُ عادت الملكية مرة أخرى في عام 1660، بعودة تشارلز الثاني!
ألا رحم الله تعالى الملكة إليزابيث الثانية، وأنزل عليها شآبيب رحماته الواسعات.. وخالص التعازي، وصادق المواساة، إلى آلها وذويها وأهليها جميعاً، وشعبها وعارفي فضلها وإحسانها.
ولنستذكر مع شعبها الحزين في بريطانيا وخارجها، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين، المعروف بالمتنبئ:
وما الموت إلا سارقٌ دقَ شخصُهُ
يصولُ بلا كفٍ ويسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر مع المسلمين البريطانيين في هذا الصدد، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.