المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي في السودان: الأهمية، المهام، والآفاق المستقبلية

فكرة انشاء المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي بالسودان ليست جديدة من حيث التجربة ، بل يُعدّ من المؤسسات المحورية في التجربة السودانية الحديثة، خصوصًا بعد تعثر مشاريع التنمية وتذبذب السياسات الاقتصادية والسياسية بفعل الانقلابات وتعدد أنظمة الحكم و المرجعيات. ودلت التجارب الوطنية السابقة على وجوده كضرورة ملحة وان ظلت الإشكالية في مضامين أبعاده وديمومته من حيث الشكل والمضمون والصلاحيات .وان استعادته كما اعلن في خطاب السيد رئيس الوزراء الافتتاحي يعضد حاجة البلاد له، على نحو عاجل وفاعل، واتوقع أن يراعى في هيكله، الجديد ازدياد أهميته المتجددة ومهامه الشاملة واختصاصاته الملحة في السياق السوداني بما يحقق أهدافه وغاياته الكبرى ويتضمن ما يلي:
أولًا: الأهمية
1. مرجعية وطنية عليا: يمثل المجلس إطارًا مؤسسياً لتوحيد الرؤية الاستراتيجية للدولة السودانية يعزز دور المؤسسات بعيدًا عن التجاذبات السياسية الآنية.
2. رابط بين التخطيط والتنفيذ: يسعى إلى سد الفجوة التقليدية بين واضعي السياسات (الحكومة) وبين متطلبات المجتمع والدولة على المدى الطويل.
3. حماية الدولة من العشوائية: يضع خططًا طويلة المدى (10–25 سنة) بما يمنع القرارات المرتجلة التي تتبدل بتبدل الحكومات والأشخاص.
4. مظلة للتكامل: يتيح إشراك الخبراء، الجامعات، مراكز البحوث، القطاع الخاص، والقوى المجتمعية في صياغة المستقبل، بدلًا من احتكار الجهاز التنفيذي.
5. حفظ التراكم الوطني: يمنع تكرار الهدم واجترار الفشل وإعادة البناء مع كل تغيير سياسي، إذ يؤسس لرؤية قومية تتوارثها الحكومات.
ثانيًا: المهام
1. إعداد الخطط القومية الاستراتيجية: وضع “رؤية السودان 2030” أو “رؤية ما بعد الحرب” كوثائق مرجعية ملزمة للدولة.
2. صياغة السياسات القطاعية: في الاقتصاد، الزراعة، الصحة، التعليم، الطاقة… إلخ، وفق أولويات التنمية المستدامة.
3. التكامل مع الخطط الإقليمية والدولية: مواءمة السياسات مع أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030.
4. متابعة وتقييم الأداء: تقديم تقارير دورية عن مدى التزام الأجهزة الحكومية بتنفيذ الخطة الاستراتيجية.
5. بناء القدرات الوطنية: تطوير الكوادر في مجالات التخطيط، الإحصاء، التقانة والحوكمة الاستراتيجية.
ثالثًا: الاختصاصات:
1. إعداد التقارير و دراسات foresight (استشراف المستقبل): حول التغير المناخي، النزاعات، الاقتصاد الرقمي، الموارد الطبيعية، والانشغالات الوطنية الاقليمية والدولية والقضايا المعاصرة.
2. اقتراح الهياكل والسياسات: مثل إعادة توزيع الوزارات أو رسم أولويات الاستثمار وتوجيه السياسات العامة .
3. إصدار المؤشرات الوطنية: لمراقبة الأداء التنموي والاجتماعي والاقتصادي.
4. التنسيق بين مستويات الحكم: قومي – ولائي – محلي، بما يضمن تنمية متوازنة تقلل الفوارق الجهوية.
5. مراجعة التشريعات: لضمان اتساقها مع الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى.
رابعًا: تكوينه :
يتكون المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي في السودان عادةً من هيئة عليا تضم خبراء وأكاديميين وممثلين للوزارات والمؤسسات القومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، بحيث يجسد تنوع المرجعيات الفكرية والعملية اللازمة للتخطيط بعيد المدى. وتقوم حوكمته على هيكل إداري يتضمن: مجلسًا أعلى يرسم السياسات العامة، وأمانة عامة تتولى التنسيق والتنفيذ والمتابعة، إضافة إلى لجان قطاعية متخصصة (الاقتصاد، التعليم، الصحة، البنية التحتية… إلخ). أما استقلاليته فتُبنى على مبدأ كونه جهازًا استشاريًا فوق تنفيذ الوزارات، مرتبطًا مباشرةً برئيس الجمهورية او الوزراء أو برلمان منتخب، مع ميزانية مستقلة وولاية قانونية واضحة، بما يضمن ألا يخضع لتقلبات الحكومات أو لضغوط المصالح الحزبية، بل يعمل كمرجعية وطنية مستدامة للتخطيط الاستراتيجي وفق التجارب الدولية وهديها .
خامساً: التحديات في السياق السوداني
.ضعف الاستقرار السياسي: مما يحد من استمرارية الخطط والمشروعات.
. تغوّل السلطة التنفيذية: التي قد تتجاهل المجلس أو تقلل من سلطته.
•غياب التمويل المستدام: إذ يحتاج التخطيط إلى موارد وبنية إحصائية متقدمة.
•ضعف التنسيق المؤسسي: بين الوزارات والمجالس والمؤسسات الولائية.
سادسًا: في مرحلة ما بعد الحرب
•سيكون للمجلس دور مفتاحي في صياغة “خطة إعادة الإعمار والتأهيل والتنمية المستدامة” بما يشمل:
•إعادة بناء البنية التحتية.
•إعادة توطين النازحين واللاجئين.
•إصلاح الاقتصاد وتوجيه الاستثمار نحو القطاعات الإنتاجية.
. وضع مسارات للتحول
الديمقراطي وتعزيز السلام المجتمعي.
خاتمة:
إن المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي ليس مجرد جهاز بيروقراطي، بل هو أداة لتجسيد الإرادة الوطنية في التنمية والتحول بمفهومها الشامل . وإذا ما مُنح الصلاحيات والموارد، وتم تحصينه من التجاذبات السياسية، فسيكون إحدى الركائز الأساسية لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس الاستدامة والشفافية. وتزداد الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الإسراع في إعلانه وتمكينه من مباشرة مهامه، حتى يكون منصة وطنية جامعة تقود إعادة الإعمار، وترسم مسارات التنمية، وتُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، وتبعث الامل في سودان المستقبل الذي يرومه الشعب.
————-
١٦اغسطس ٢٠٢٥م