المُبادرة لغةً واصطلاحاً، هي سبْقٌ إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه. وفي السياسة المبادرة هي مسألة تتعلق بمقترحٍ محددٍ، يلتمس من خلاله أصحاب المبادرة معالجة قضية بين طرفين أو أكثر، فهي لا تقتصر على طرفٍ واحدٍ. فالسلام لا يكون إلا بين طرفين أو أكثر، بينما الحرب يُمكن أن يشعلها طرفٌ واحدٌ! وتطور مفهوم المبادرة في السنوات الأخيرة، فأصبحت المبادرة، هي فكرة وخطة عمل تُطرح لمعالجة قضايا المجتمع. وتهدف المبادرة سواء أكانت محلية أو إقليمية أو دولية، إلى إحداث قدرٍ من التوافق، نتيجة تنازل الأطراف من مواقفهم المتباعدة، وصولاً إلى تقاربٍ وتفاهمٍ من خلال تلكم المبادرة.
ولمَّا تباينت مواقف المنظومات السياسية والمكونات الحزبية، حول إدارة المرحلة الانتقالية في السودان، وتدافعت المبادرات السياسية الإقليمية والدولية، وأقحمت السفارات الأجنبية نفسها في الشأن السياسي السوداني، اكتفت مصر بدءاً، بمقولات الخير والإحسان، عن طريق قياداتها، داعيةً إلى أن ينهض السودان بتضافر جهود بنيه! وطال انتظار مصر ترقباً وتحسباً، لتطورات الشأن السوداني، فسارعت الخُطى لإظهار قدرٍ من الاهتمام بالشأن السياسي في السودان، ورأت أنه ليس من الحكمة والدربة أن تنأى بنفسها عن المعترك السياسي السوداني، وهي التي خبرت دهاليزه، وعرفت تضاريسه، أكثر من هؤلاء الذين يخوضون غماره بقليل معرفةٍ ودرايةٍ.
وأحسبُ أن السجالات والمباهلات التي اشتد أوارها، وحمى وطيسها، بين السياسيين السودانيين، وتزايد التدخلات الخارجية -عرباً وعجماً- في الشأن السياسي السوداني، دفعت القيادة المصرية دفعاً إلى تقديم مبادرة عجلى، لحلحلة الأزمة السودانية، وإثبات عُرى الأخوة وأواصر الصداقة للشعب السوداني، وتأكيد ما نظمه الشاعر الراحل تاج السر الحسن، وما غناه الفنان الراحل عبد الكريم عبد العزيز الكابلي:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ
يا رياضاً عذبة النبع وريقة .. يا حقيقة ..
فاضطرت بهذه المبادرة العجلى التي جاءت بأخرةٍ إلى التماس العُذر في التأخير، بالمقولة الإنجليزية الشهيرة:
Better late than never
phrase of late
it is better to do something or arrive after the expected time than not do it or arrive at all.
“it took them the majority of the campaign to come to that conclusion, but better late than never”
فالمبادرة المصرية، في بدءها كانت أمانٍّ وأمنياتٍ، عبر عنها عدد من قياديها وساستها في مناسباتٍ مختلفةٍ، حيثُ أكد الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث الرسمى بإسم رئاسة مجلس الوزراء المصرى، في المؤتمر الصحافي الذي عُقد على هامش انعقاد الحوار الاستراتيجى المصرى – السعودي – “أن القاهرة مستمرةٌ فى مساعيها الحثيثة لتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية بالسودان الشقيق من خلال عقد ورشة عمل سودانية – سودانية بالقاهرة، وذلك خلال الفترة القليلة المقبلة”.
وأظن -وليس كل الظن إثمٌ- أن الكثير من المنظومات السياسية والمكونات الحزبية، سارعت إلى تأييد المبادرة المصرية دون معرفة كُنهها، أو سبر غورها، نكايةً في الاتفاق الإطاري الذي أبرزت عُواره، ووصفته بالإقصائي، وجعلته متهوماً بأجنداتٍ أجنبيةٍ لا تُريد خيراً للعباد، ولا استقراراً للبلاد!
وكان من الميسور لخصوم المبادرة المصرية، التي عُجل بولادتها، دون تفصيل بنودها، وتحديد خارطتها، أن يعجلوا بنفيها بعد أن تزاحم مؤيدوها – ساسةً وعامةً – مما اضطر مسؤول مصري إلى نفي ما راج عن تجميد مصر لمبادرتها الساعية لحل الأزمة السياسية السودانية، وتعهد بأن مصر من خلال مبادرتها، ستعمل على ترتيب حوار سوداني – سوداني في القاهرة، حيثُ تجمع فيه كل الأطراف السودانية لتقريب وجهات النظر، ومن ثَمَّ تحقيق التوافق الوطني لاستكمال مؤسسات المرحلة الانتقالية، وتهيئة المناخ لقيام انتخاباتٍ نزيهةٍ.
أخلص إلى أن المبادرة المصرية، مطلوبٌ منها، تحديد خارطة لإنفاذ موجهاتها، المتعلقة بالحوار السوداني – السوداني، والتأكيد على دعوتها لتوسيع المشاركة السودانية، باعتبار أن هذا ما دفع السودانيون – ساستهم وعامتهم – إلى تأييدها، كُرها في إقصاء الاتفاق الإطاري، لكثير من المنظومات السياسية والمكونات الحزبية والتيارات الشبابية، ومعظمهم إن لم يكن كلهم، يتحفظون أيضاً على الاتفاق الإطاري ويرفضونه، باعتباره صنيعة أجنبية، تُعلي من شأن منظومات سياسية غير ذات شعبية، إذا استثنينا حزب الأمة القومي، بما حققه انتخابياً في غابر الزمان! وعلى الرغم، من ثلاثية الحرية والتغيير المركزي، رفضت المبادرة المصرية، إلا أن السيد علي خليفة عسكوري القيادي بالكتلة الديمقراطية، كشف موافقة حزبيّ الأمة القومي، والمؤتمر السوداني للذهاب إلى القاهرة من أجل مناقشة القضايا السياسية المتعلقة بالمرحلة الانتقالية في إطار المبادرة المصرية لمعالجة الأزمة السودانية. وهذا ليس بغريبٍ عليهما إذ كانا مع آخرين يُفاوضون المكون العسكري سراً، ويلعنونه جهراً، حتى انكشف أمرهم جميعاً لعامة الناس، وفضح أمرهم الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، في أكثر من مناسبةٍ!
ومن الضروري، الإشارة إلى أن مآلات الاتفاق الإطاري في خُسرانٍ مبينٍ، في حين تكتسب المبادرة المصرية زخماً كبيراً، إذا أحسن صُناعها صناعتها، لأنها في مهدها قبل أن تشب عن الطوق، رحبت بها الكثير من المنظومات السياسية والمكونات الحزبية والتيارات الشبابية، بالإضافة إلى الحركات المسلحة والكتلة الديمقراطية والحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) وجماعات نداء أهل السودان للتوافق الوطني، وبعض رجالات الإدارة الأهلية والطرق الصوفية، وعدد كبير من تياراتٍ سودانيةٍ مختلفةٍ، تم اقصاؤها بحُججٍ واهيةٍ، من العملية السياسية.
وعلمتُ من بعض المصادر، أن المبادرة المصرية، تحددت معالمها، واستوت على الجودي للانطلاق، وهي على غرار سفينة نوح، تخوض عباب أمواج بحر السياسة السودانية المتلاطمة، مَنْ استقلها نجا، ومَنْ عزف عنها وأبى، واستعصم توهماً بجبلٍ، يستهدف النجاة، غرق لامحالة! وبعد أن جمعت المبادرة المصرية أطرافها، وأحكمت وثاقها، دون الإعلان عن تفاصيلها،خشية أن يكمن الشيطان في تفاصيلها، لذلكم سارع أهل المبادرة المصرية، إلى توجيه الدعوة لكافة الأطراف السودانية، وخشية أن تحقق المبادرة المصرية، ما عجزت عنه سائر المبادرات لحل الأزمة السياسية السودانية، وكما هو متوقع، فقد أعلنت قوى الحرية والتغيير المركزي رفضها لتلكم المبادرة المصرية المتعلقة بالمشاركة في ورشة عمل بعنوان “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع” والتي ستعقد في الفترة من 1-8 فبراير (شباط) المقبل. وقدمت الحرية والتغيير حيثيات رفضها، وأبرزت حجتها، بأن الاتفاق الإطاري وضع أساساً جيداً لعملية يقودها ويمتلكها السودانيون، وشكل اختراقاً في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي، مما يجعل الورشة متأخرة عن هذا السياق، وقد تجاوزها الزمن فعلياً! ولم يكتفِ جماعة الحرية والتغيير المركزي برفض المبادرة المصرية، بل جعلوها متهومةً، بأنها ستكون منبراً لقوى الثورة المضادة -يا للهول ثلاثية الحرية والتغيير المركزي الثورة، وما دونها قوى ثورة مضادة!
والأغرب، أن ثلاثية الحرية والتغيير المركزي في تخبطها، وكسبها للأعداء والخصوم، بأسرع ما تيسر، ذكرت في بيان رفضها للمبادرة المصرية، أن الموقف المصري من التطورات السياسية في السودان في أعقاب ثورة ديسمبر (كانون الأول) المجيدة، يحتاج إلى مراجعاتٍ عميقةٍ، تتطلب تفاكراً حقيقياً على المستوى الرسمي والشعبي بين البلدين!
وتشير بعض المصادر المصرية، إلى أنه بعد تقدم المبادرة المصرية في شكلها النهائي، ستكون القاهرة مقراً للحوار السوداني – السوداني برعايةٍ مصريةٍ. فعلى مصر لإنجاح مبادرتها تكثيف الحملات الإعلامية من خلال الوسائط الصحافية والإعلامية -التقليدية والحديثة- لتبيان أهداف هذه المبادرة ومقاصدها في معالجة الأزمة السياسية السودانية!