المؤتمر الأول عن حرب السودان : دلالات التحول الإقليمي وصعود السردية الوطنية

يمثل انعقاد أوّل مؤتمر يناقش تطورات الحرب على البلاد في مدينة بورتسودان بمشاركة إقليمية واسعة هذه الايام لحظة سياسية فارقة، ليس فقط في سياق الحرب الدائرة، بل في مشهد التحولات الإقليمية، وتوازنات النفوذ، ومسار إعادة تعريف الشرعية داخل السودان. ويكتسب المؤتمر أهميته من توقيته، ومن طبيعة المشاركة فيه، ومن البيئة السياسية المصاحبة له، حيث تتقدم السردية الرسمية الوطنية، ويتراجع الدعم السريع عسكريًا وسياسيًا، وتنكشف مرمي مخططه الشرير المدعوم من الإمارات. وتتصاعد الإدانات الدولية عليه، بينما يلوح في الأفق بصيص أمل لإحياء المبادرة السعودية–الأمريكية بفرصة مختلفة في سياقها ومعطياتها .
هذا المقال يتناول الدلالات العميقة للمؤتمر على أربعة مستويات:
(1) المشهد السوداني الداخلي، (2) الإقليم، (3) الشرعية الدولية، (4) مستقبل مسار السلام.
أولاً: دلالات داخلية – تثبيت مركز الشرعية وصعود السردية الوطنية
1.بورتسودان مركز القرار
عقد المؤتمر في بورتسودان ليس تفصيلاً إداريًا، بل فعل سياسي متعمد يحمل عدة رسائل:
• إقرار إقليمي بأن مركز الشرعية التنفيذية موجود في بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة.
• اعتراف بقدرة الدولة السودانية، رغم ظروف الحرب، على إدارة مؤسساتها وتنظيم فعاليات دولية ذات صله بالحرب بالوكالة.
• إزاحة غير مباشرة لسردية مليشيا الدعم السريع التي حاولت تصوير البلاد كدولة منهارة بلا حكومة فعلية، تناصفها الشرعية والتمثيل.
2.تثبيت السردية الوطنية مقابل سردية “الاقتتال الداخلي”
على مدى شهور، بذلت الحكومة السودانية جهدًا دبلوماسيا كبيرًا لنقل سرديتها إلى المجتمع الدولي:
• الحرب ليست صراعًا بين جنرالين، بل عدوان خارجي عبر وكيل داخلي بدعم من خارج الحدود .
• مليشيا الدعم السريع ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق ترقى لجرائم حرب وإبادة وفق الأدلة التي توافرت دوليا.
• الدولة تواجه تفككًا ممنهجًا يستهدف الأمن القومي السوداني والاقليم على حد سواء.
انعقاد المؤتمر بهذا الشكل يعكس أن هذه السردية أصبحت مقبولة إقليميًا، بينما تراجعت سردية التمرد التي بنى عليها نفوذه السياسي والإعلامي ومشروع الإمارات من ورائها.
3.انتصار سياسي بالشرعية
الظهور الإقليمي للحكومة في بورتسودان يمثل:
• اعترافًا بأدوار المؤسسات السودانية الرسمية.
• تراجعًا لفكرة “الفراغ السياسي”.
• تعزيزًا لموقع الدولة في أي مفاوضات مستقبلية.
ثانياً: دلالات إقليمية – التقاء المصالح حول استقرار السودان
1.تحوّل في حسابات الأمن الإقليمي
شاركت دول عربية وإفريقية عديدة في المؤتمر. وهذا يشير إلى إدراك جديد بأن:
• تفكك السودان يشكل تهديدًا للأمن القومي العربي والإفريقي ، واستعادة مفهوم الامن الجماعي .
• البحر الأحمر، والهجرة، والسلاح، والإرهاب، والتهريب كلها ملفات مرتبطة مباشرة باستقرار السودان.
• التمرد، بشبكاته العابرة للحدود، أصبح عامل اضطراب إقليمي لا مكسب منه ولا قدرة له للسيطرة على البلاد.
2.رسائل ردعية للداعمين الإقليميين للدعم السريع
المؤتمر ليس مجرد منصة حوار، بل آلية ضغط سياسية بأبعاد واضحة:
• الإقليم يبعث برسالة أنّه لن يسمح بانهيار السودان لصالح جماعة مسلحة.
• أي دعم مالي أو لوجستي لمليشيا الدعم السريع أصبح هدفًا للانكشاف السياسي سيرتد على أطرافه.
3.بداية هندسة جديدة للأمن في البحر الأحمر
بورتسودان – بحكم موقعها – ليست مجرد مدينة، بل منصة اتصال بين الخليج والقرن الإفريقي.
عقد المؤتمر فيها يعكس:
• اهتمامًا متزايدًا بحماية البحر الأحمر.
• رغبة في تعزيز دور السودان ضمن هندسة أمنية جديدة تقودها السعودية ومصر مع دول الإقليم، ستتشكل من خلفها شبكة امان دولية تضع حد لتقاطعات المصالح وجعل السودان ساحة توتر .
ثالثاً: دلالات دولية – تراجع التمرد أمام سيل الإدانات
1.الانهيار القيمي والأخلاقي للتمرد
على مدى الأسابيع الأخيرة، توالت تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والحقوقية التي وثّقت:
• التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
• العنف الجنسي المنهجي.
• النهب والقتل الجماعي.
• الهجمات بالطائرات المسيّرة وجرائم الحرب على المدنيين.
هذا التراكم خلق مناخًا دوليًا طاردًا للدعم السريع، وجعل من الصعب على أي طرف خارجي دعمه علنًا.
2.تبلور موقف دولي متدرج لصالح الدولة
مشاركة وفود إقليمية واسعة في مؤتمر تنظمه الحكومة السودانية تعكس أن العالم بدأ ينظر إلى:
• الجيش والحكومة كطرف شرعي.
• الدعم السريع كميليشيا فاقدة للغرض والهدف السياسي.
3.استعادة السودان موقعه في الدبلوماسية الإقليمية
المؤتمر خطوة أولى نحو:
• إعادة السودان إلى الطاولة الإقليمية.
• تحريك مسارات الدعم الاقتصادي والإغاثي وتحييد بوصلته لا ادة تبييض.
• خلق قنوات تواصل جديدة تخدم مرحلة ما بعد الحرب.
رابعاً: دلالات على مسار جدة – تعزيز المبادرة السعودية–الأمريكية
1.إحياء الوساطة السعودية–الأمريكية
رغم التعثر السابق في اتفاق جدة ، فإن المناخ الحالي يعيد زخم الوساطة:
• مشاركة إقليمية داعمة في المؤتمر تمثّل شبكة إسناد سياسية للمبادرة.
• إدانات الدعم السريع خلقت قاعدة أخلاقية للضغط عليه للقبول بوقف العدائيات.
. هنالك فرصة كبيرة لتصنيفه جماعة ارهاب
أ2.سس جديدة للتفاوض
المؤتمر يعزز فكرة أن أي عملية سياسية يجب أن تستند إلى:
• وقف العدوان.
• إعادة هيكلة المنظومة الأمنية من داخل الدولة ومؤسساتها .
• عدم مساواة الدولة بجماعة ارتكبت انتهاكات واسعة، هددت امن الاقليم.
3.تهيئة الأرض لمرحلة الانتقال
المؤتمر قد يكون بوابة نحو:
• تحشيد دعم دولي لإعادة الإعمار.
• دفع عملية الإصلاح المؤسسي.
• تصميم ترتيبات أمنية أكثر رسوخًا.
الخلاصة
يمثل المؤتمر الأول عن الحرب في بورتسودان لحظة تحوّل سياسي وإقليمي ودولي، تؤكد:
• صعود السردية الوطنية.
• تراجع التمرد سياسيًا وأخلاقيًا.
• اصطفافًا إقليميًا متزايدًا حول الشرعية السودانية.
• دعمًا متناميًا لمسار سعودي–أمريكي قد يعيد تشكيل مسار الحل.
• إدراكًا إقليميًا أن استقرار السودان ليس خيارًا، بل ضرورة قصوى.
إنه مؤتمر يؤرخ لمرحلة جديدة، تتقاطع فيها الإرادة المحلية والإقليمية لصالح استعادة الدولة السودانية، وإعادة فرض سيادتها، وفتح الطريق نحو تسوية تنهي الحرب وتعيد بناء المؤسسات على أسس جديد.
وعلى ضوء هذه التطورات، يتّضح أن السودان يمضي بثبات نحو آفاق حلٍّ يستند إلى خيارات الداخل وإرادة شعبه وقواه الوطنية، لا إلى وصفات تُفرض من الخارج أو ترتيبات تُصاغ بمنأى عن واقع البلاد وتعقيداتها. لقد شكّل انعقاد المؤتمر في بورتسودان، بهذا الحضور الإقليمي اللافت، تحولًا مهمًا في موازين الشرعية والفاعلية، ورسالة واضحة بأن المجتمع الإقليمي مستعدّ لدعم الحل السوداني إذا كان منبثقًا من رؤية وطنية متماسكة، ومُعبِّرًا عن مصالح الدولة وشروط أمنها القومي.
وفي المقابل، فإن سياسة الإملاءات وفرض الوصاية التي سعت إليها بعض الأطراف الدولية، وعلى رأسها الرباعية، لم تعد ممكنة في ظل المعادلات الجديدة؛ بل يمكن القول إن فرص تلك المقاربة قد انعدمت تمامًا بعد أن فقدت مفعولها الأخلاقي والسياسي، وتجاوزها الواقع الميداني والإقليمي. فاليوم، لا مجال لفرض حلول من أعلى، ولا لمنح الشرعية لقوى السلاح خارج الدولة، ولا لإعادة إنتاج مسارات أثبتت فشلها وعدم توافر اي سند داخلي لها.
إنّ لحظة بورتسودان ليست مجرد مؤتمر، بل إشارة إلى بداية انتقال السودان من موقع المفعول به إلى موقع الفاعل، ومن الاستلاب السياسي إلى استعادة القرار الوطني، ومن سرديات الآخرين إلى سرديته الوطنية الجامعة. وهي لحظة تؤذن بإمكانية فتح الطريق أمام تسوية تُعيد بناء الدولة على أسس جديدة، وتُعلي من شأن السيادة، وتحفظ كرامة المواطن، وتُطلق عملية إصلاح مؤسسي تتكامل فيها إرادة الداخل مع سند الإقليم، بعيدًا عن الوصاية والتجريب الدولي الذي أنهك البلاد طويلا.
——————
٨ ديسمبر ٢٠٢٥ م



