

كَتَبَ: صالح محمد علي
رُبَّ شمسٍ غرُبت والبدرُ عنها يُخبر
وزهورٍ قد تلاشت وهي في العطر تعيش
نحن أكفاءٌ لما حَلَّ بنا بل أكبر
تاجُنا الأبقى وتَنْدَكُّ العُرُوشْ
ولِمن ولَّى جميلٌ يُؤْثَرْ
ولِمن ولَّى حديثٌ يُذكَرْ
(صلاح أحمد إبراهيم)
لم أجد أصدق من قصيدة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم (نحن والردى) تعبيراً عن حياة وممات الفريق (طيّار) الفاتح عروة , ولا عنواناً أنسب لهذه المقالة من رحيل الساموراي (المحارب من أجل الواجب في الثقافة والتاريخ الياباني) وتتقاصر الكلمات. وقد هزنا نبأ رحيله في الإحاطة بجزء بسيط من حياته وكفاحه ومجاهداته ولكن قيد الإحسان وحق السودانيين في معرفة سيرة ومسيرة هذا الرجل، الذي بذل أكثر من نصف قرن لخدمة بلده، تدفعني لتسطير بعضاً مما نعرفه عنه، ولعل الكثيرين من زملائه وأصدقائه وتلاميذه بمقدورهم إظهار ما عرفوه عنه بأكثر مني وأنا أسطر هذه الكلمات في عجالة متأثراً بهول الفاجعة ومرارة الفقد، وأحاول أن أركّز على المبادئ والمعاني التي نذر لها الفقيد عمره.
1ـ النشأة والتكوين

ولد الفاتح عروة في 10/مايو 1950م في بيت إرتبط بالجندية، فوالده اللواء محمد أحمد عروة خدم في قوة دفاع السودان إبان الحرب العالمية الثانية، وقاتل في كَرَنْ وأختير عضواً في المجلس العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1958م – 1964م ) وتقلّد إبان تلك الفترة وزارتي الداخلية والتجارة والتموين، ووالدته أسماء هي ابنة (الأميرلاي) محمد الحسن عثمان العمدة الذي كان ياوراً للرئيس إسماعيل الأزهري , وهو سليل أسرة توارثت عمودية ناحية الحلفاية وشمال بحري. درس بمدارس الخرطوم بحري ومدرسة الخرطوم القديمة الثانوية، ثم بحري الثانوية وإلتحق بكلية الإقتصاد والعلوم الإجتماعية بجامعة الخرطوم (1968م ) ثم آثر الانضمام للقوات المسلحة وتخرج ضمن ضباط الدفعة (22) في العام 1970م . وعمل ببورتسودان وجنوب السودان (المنطقة الإستوائية) ومعلماً بالكلية الحربية السودانية قبل أن ينضم لجهاز الأمن في العام 1976م وبرزت في تلك الفترة ملكاته وشغفه ونبوغه في العمل الأمني، فأختير ملحقاً أمنياً بموسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي في فترة شهدت أوج الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وتمكن في وقت وجيز من ترتيب عمل الملحقية الأمنية, وعلى الرغم من أن العمل بمحطة مثل موسكو، كان حُلماً للكثيرين ويدرعائداً مادياً غير قليل ولكنه فاجأ قيادة جهاز الأمن بطلب نقله لأنه رأي أنه عمل كل ما بإستطاعته ولم يكن هناك داعي لإستمراره في هذه المحطة، فتم نقله إلى محطة أديس أبابا في 1980 م إبان ذروة العداء بين السودان ونظام الرئيس الإثيوبي منقستو هايلي ماريام وسبب وجوده هناك صُداعاً لجهاز الأمن الإثيوبي الذي كان يراقبه على مدار اليوم، ولم يمنعه ذلك بما عُرف عنه من ذكاء وتحدي من إختراق المؤسسات الأمنية والعسكرية الإثيوبية، وكانت خُططه وأدائه وتقاريره مَثار إعجاب رئاسة جهاز الأمن السوداني، ومُنح في تلك الفترة وسام الشجاعة من الرئيس جعفر نميري تقديراً لدوره في التنسيق وإنجاح واحدة من أميز وأخطر العمليات، وهي إطلاق سراح المختطفين الغربيين (بجبل بوما)عند بداية التمرد في جنوب السودان (يوليو 1983م).
وعندما ضاق نظام منقستو ذَرْعاً بتحركات وإخترقات الفاتح عروة، لم يجد بُداً من إعتباره دبلوماسياً غير مرغوبٌ فيه، فعاد إلى السودان في العام 1984م ليصبح مسؤولاً عن التنسيق مع المعارضه الليبيه لنظم معمر القذافي و انجز عمليات جريئه بالاضافه لإشرافه على ملف القرن الافريقي، وقد شهدت تلك الفترة قضية نقل اللاجئين الإثيوبيين (الفلاشا) من معسكرات اللجوء بشرق السودان إلى أوروبا، ومن ثم إلى إسرائيل، وعندما سقط نظام جعفر نميري كان الفاتح عروة في إجازة من جهاز الأمن وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الطيران، فقرر العودة طوعاً إلى السودان والخضوع للمحاكمة، ولم يثنهِ عن ذلك الأجواء المشحونة ضد نظام نميري وقتها، كانت دفوعاته التي شهدها الجميع عبر بث جلسات المحاكمة أنه (ضابط يؤدي الواجب الذي تطلبه منه قيادته) وأبرزت تلك المحاكمة الفاتح عروة للرأي العام الذي كان متابعاً بشغف لجلسات المحاكمة، ومالم يكن معروفاً حينها، أنه اصر أن لا يُسأل أو يُحاكم معه أي من الضباط والجنود الذين كانوا تحت إمرته متحملآ مسؤليتة.
في العام 1985م غادرعروة إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مع الأمير تركي الفيصل مدير المخابرات السعودية هو و اللواء أمن عثمان السيد مدير الأمن الخارجي وقتها، كمستشارين لشؤون القرن الإفريقي، وظل بالمملكة حتى العام 1989م وحينها توطدت علاقاته بحركات الثورة في إثيوبيا وإرتريا والصومال. وفي سبتمبر من العام 1989م عاد إلى السودان بطلبٍ من حكومة الإنقاذ وعُيّن وزيراً للدولة بالقصر الجمهوري مستشاراً للأمن القومي (1989م – 1995م ) ثم وزير دولة بوزارة الدفاع 1995م – 1996م).
2ـ في القرن الأفريقي

في تلك الفترة التي شهدت تقاطعات في بنية حكومة الإنقاذ وتحديات في علاقاتها الخارجية، إنشغل الفاتح عروة بملفي الأمن الخارجي والعمل العسكري، وكان لمجهوده ومعرفته بالقرن الإفريقي دوراً كبيراً ونال القدح المُعلّى في إبعاد خطر وتآمر نظام منقستو هايلي ميريام على السودان، وانتهى بسقوط النظام الإثيوبي وإنتصار جبهة تحريرالتقراي (T.P.L.F) والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ( (E.P.L.F) وتسلمهما للحكم في كل من أديس أبابا وأسمرا.
و في مايو عام 1991 ، نسق الفاتح بعلاقاته السابقة زحف الحركتين في إنتصارهما بدعم كامل من السودان، وقاد بنفسه طائرة صغيرة مصتصحباً صديقه ملس زيناوي في رحلة محفوفة بالمخاطر من الخرطوم إلى أديس أبابا، حيث تعطّل أحد محركي الطائرة قبل دخول الحدود الإثيوبيه و لكنها حبطت بسلام وظل على علاقة وثيقة مع القيادة الجديدة خصوصاً في إثيوبيا مما قاد لأن تكون تلك الفترة هي الأمثل في علاقة البلدين، وعمل في تلك الفترة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية إفريقيا الوسطى وتوطيد العلاقة مع جنوب إفريقيا وهي تشهد مرحلة الخروج من نظام الفصل العنصري، لم تخلو تلك الفترة من تقاطعات كثيرة داخل بيت الإنقاذ واختلافات في الرؤى وجرّ عليه صدعه بما يراه وعدم خشيته من مراكز القوى داخل الحكم الكثير من الضرر، وكان على الدوام ناصحاً بقوة ومقاتلاً من أجل محاربة الفساد وضد الظلم، ومقدماً للحلول ومبادراً لما يرى فيه مصلحة للبلاد والعباد وتجاوز بعلاقته القوية وثقة القيادة الإثيوبية فيه والسفير السوداني في إثيوبيا عثمان السيد الكثير من المطبات، وجنّب علاقة البلدين الصدام الذي كان حتمياً عند وقوع محاولة إغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في يوليو 1995م.
شكلت ملحمة صيف العبور في العام 1991م ميداناً آخر للفاتح عروة الذي عاد إلى القوات المسلحة برتبة العميد حيث نفّذ بجرأة أولى العمليات وفق خطة عسكرية فاجأت حركة التمرد في جنوب السودان بتحرير مدينة (فشلا)عبرعملية معقدة قادها بنفسه بمساعدة أصدقائه الحكام الجدد في أديس أبابا، وواصل لأربعة أعوام عمل يومي برفقة العقيد إبراهيم شمس الدين واللواء محمد مصطفى الدابي في قيادة عمليات الجيش بكل محاورالقتال في الجنوب، وكان يقود بنفسه الطائرة المروحية المقاتلة (هيليكوبتر) و هو أول من أطلق عليها إسم (أبابيل)عند دخولها لأول مرة في العمليات العسكرية البرية في حرب الجنوب، وهو أول من أدخل أنظمة تحديد المواقع (GPS) وزود بها متحركات الجيش في عمليات صيف العبور.
كانت حركة التمرد تحاصر (جوبا) كبرى مدن الجنوب وتقصفها بالمدفعية صباحاً ومساءً ، وكثيراً ما عطّلت حركة الملاحة بمطار جوبا الذي كان بمثابة شريان الحياة لمواطن جوبا ولمتحركات القوات المسلحة في عموم الجنوب, رغم كل ذلك واصل رحلاته شبه اليومية إلى جوبا وبقية مدن وحاميات الجنوب مشرفاً على العمليات ، يؤمن المؤن والإمداد ويجلي الجرحى بالطائرة التي يقودها بنفسه والتي كثيراً ما تعرّضت للإستهداف بمناطق العمليات وأثناء سير المعارك.
3ـ في الأمم المتحدة

في أغسطس من العام 1996مـ دفعت حكومة الإنقاذ بالفاتح عروة مندوباً للسودان في الأمم المتحدة بنيويورك ، في خضم العلاقات الدبلوماسية المتوترة مع أمريكا التي كانت قد رفضت قبوله سفيراً لديها بوشنطون في أعقاب إعدام الحكومة السودانية لموظف المعونة الأمريكية (تومبي) الذي أتهم بالتجسس لصالح حركة التمرد، وظل الفاتح يشغل مقعد مندوب السودان بالأمم المتحدة لما يقارب عقداً كاملاً من الزمان حتي 2006 م وهي أطول فترة لمندوب سوداني بالأمم المتحدة, كانت فترة طويلة ولكنها مليئة بالتحديات في ظل ظروف حرجة ومعقدة، لبلدٍ يعيش في حالة حصارٍ إقتصاديٍ شبه تام، برزت فيها شخصيته الفريدة ومقدراته العالية ومزج فيها بين صون العلاقات مع عددٍ من الدول الصديقة للسودان خارج المنظومة الغربية، وإتقانه الإفلات من المطبات الدبلوماسية، بل تمكن في إحداها من الحصول على عضوية للسودان بمجلس حقوق الإنسان في عِز إتهام الدول الغربية للحكومة السودانية بكل موبقات وإنتهاكات حقوق الإنسان !! وتلك قصة تستحق لمن عايشها من الدبلوماسيين السودانيين روايتها للأجيال.
في واحدة من الصدامات المشهورة مع الإدارة الأمريكية كانت شكوى السودان ضد أمريكا لقصفها مصنع الشفاء، طلبته قناة الـCNN للقاء تلفزيوني حول الشكوى كان رده:- أقبل الحضور للأستديو أذا كان الحوار مباشراً غير ذلك فلا، واستجابت القناة وكانت مقابلة لافتة تحدث فيها بقوة وبلغة رصينة . وفي هذه القضية أيضاً وبعد حين وفي إطار الحوار مع الإدارة الأمريكيه طالبته وزارة الخارجية السودانية بسحب الشكوى ضد أمريكا بخصوص مصنع الشفاء فكان رده (ارجعوني إلى لخرطوم أولاً وأحضروا من يسحب الشكوى، أما أنا فلا).
ولم يتوقف الفاتح عروة عن نسج وتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول المهمة مثل روسيا والصين وجنوب أفريقيا ومصر والجزائر وأثيوبيا، بل إمتدت علاقته لدول لم يكن أحد يأبه لها مثل (جزر القمر) وكان له علاقات وطيدة مع قياداتها، وقدّم لهم الكثير من المساعدات، وربطته علاقات متينة مع الكثير من مندوبي الدول الإفريقية الذين عاد الكثير منهم وزراء للخارجية ببلدانهم. إحتفى الفاتح بالجالية السودانية في نيويورك، وكسب ودهم وقدم عصارة خبرته وعلاقاته للوفود الحكومية المختلفة، التي كانت تحضر إجتماعات الأمم المتحدة المتخصصة في الإقتصاد والعمل الإنساني والقانون، وساعدته علاقته الوثيقة مع رئاسة وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية في تجاوز الكثير من الإجراءات البيروقراطية، وفي تعديل الكثير من القرارات المؤثرة بما توفر له من حُجة وإقناع وقوة شخصية.
في شهادة ذات دلالة حكى لي الإداري السابق في البعثة بنيويورك بابكر الجنيد – أطال الله عمره – أن السفير والسياسي المعروف المرحوم أحمد سليمان كان غاضباً عندما جرى نقله من بعثة السودان في الأمم المتحدة إلى السفارة بواشنطون , ولكنه هاتف الجنيد بعد تعيين الفاتح عروة قائلاً:ـ ( يا جنيد علي بالطلاق الآن جاكم ود الرجال الأحسن مني ).
4ـ شركة زين للإتصالات


في العام 2006 م وبعد أن بدأ يتشكل وضع جديد في السودان بإتفاقية نيفاشا، تقدّم الفاتح عروة بإستقالته وأصر عليها إصراراً شديداً، وعاد إلى الخرطوم ليؤسس مركزاً للدراسات الإستراتيجية وسرعان ما إستقطبته مجموعة زين للإتصالات في العام 2008 م عضواً منتدباً ورئيساً تنفيذياً لشركتها بالسودان، ثم رئيساً تنفيذياً للمجموعة بإفريقيا مستفيدةً من خبرته وتجاربه وعلاقاته الداخلية والأفريقية.
لا غرو إن كانت هوايته قادته لإتقان الطيران والحصول على رخصة طيار، فإن ذكاءه الوقّاد وحبه للتحديات وحنكته الإدارية، شكلت عوامل نجاحه في قيادة شركة زين السودان ولعل البعض يتساءل ما علاقة الدبلوماسية والجندية بالإتصالات؟ وما درى هؤلاء بأنه شغوف بالتكنولوجيا منذ بواكير ثورتها، كيف لا وهو كان من قلائل السودانيون الذين يمتلكون جهاز كمبيوتر منذ ثمانينيات القرن الماضي. كان شعاره الجملة التي كثيراً ما رددها (نحن مؤتمنون على أموال المساهمين الكويتيين وحريصون في ذات الوقت على مصالح بلدنا السودان) فتجلت في قيادته لزين ملكاته ومهاراته وخبراته الإستثنائية، لم يكن مديراً فحسب لكنه كان قائداً بمعنى الكلمة في التخطيط والإدارة والمعاملة. كان حازماً وإنسانياً في ذات الوقت، وضوح في الهدف وبراعة في التنفيذ، كان مكتبه مفتوحاً لكل الموظفين ووضع من الأسس والقواعد، ما تفخر به زين، كانت فترته التي إستمرت 17 عاماً مليئة بالتحديات والإنجازات، يكفي أنه تولى قيادة الشركة وهي تملك 300 محطة إتصال (برج) وعدد مشتركيها في حدود مليون مشترك وهي الآن لديها قرابة 3000 ألف محطة إتصال وقرابة 15 مليون مشترك وظل حفياً بالمواهب والكفاءات السّودانية من الشباب العامل بالشركة، دعمهم وآمن بقدراتهم وتمكن من أن يجعلهم يتولون كل وظائف الشركة بنّسبة 99.9% ويكاد يكون لكل واحد منهم قصته وعلاقته الشخصية معه، حتى فاجأوه ذات صباحٍ من عام 2018 بتنظيم احتفال بمدخل الشركة دون علمه، تكريماً له وسّطرو على خلفية الاحتفال هذه الكلمات:
(إلى ّسعادة الأب والأخ الزميل الفريق طيار/ الفاتح عروة بهذا نشهد أنك قد كنت فينا وسّوف تظل القدوة، الأسّوة،الحكمة، القوة، قائد أخو بأّس.. نبراسٌ ودليل ، نشكرك على كل شيء.. وتأكد من حُبنا لك لوجه الله تعالى
موظفو زين السودان)
قال لهم وقتها “طوال عمري هذا لم أحني رأسي لأحد في كل المواقف التي واجهتني، ولكني سوف أفعل ذلك الآن أمام موقفكم هذا” ثم انحنى تقديراً لهم وهو يزرف الدموع.
مع إهتمامه الفائق بتجويد خدمة الإتصالات وتوسّيع الشبكة لم يتوان في دعم المشاريع المجتمعية للشركة، وكان يشرف ويتابع وأحياناً يزور ويفتتح مثل هذه المشاريع من سيارات لإسعاف المرضى الرُحّل بدارفور إلى آبار المياه الجوفية في سّنكات إلى مشروع مياه الجفيل بكردفان ومسّتشفى شركيلا للأمومة إلى داخليات مدرسّة (فِرّيق) بالسّكوت في الشمالية، إلى مدرسّة الحسّين آدم بشرق الجزيرة وغيرها، كما كان حفياً بأنشطة جائزة الطيب صالح ومسّابقة الأم المثالية ومهرجان البحر الأحمر السّياحى وغيرها، من النشاطات التى تنفذها زين تحت قيادته. عرفه موظفو الشركة أول من يصل إلى المكتب وآخِر من يغادر مسّاءً، يتجوّل بينهم في المكان، يتلطف معهم ويسأل عن أحوالهم وأسًرهم.
يمكننا أن نضرب عشرات الأمثلة لتعامله الأبوي ووفائه لموظفيه وحرصه على الوقوف بجانبهم ولكننا نكتفي بثلاث امثله أولهما من شركة زين :-في المظاهرات التي إندلعت نهايه 2018 , إعتقل جهاز الأمن موظفة من شركة زين بتهمة القيام بنشاط معادي للحكومة، وكان سعادة الفريق وقتها خارج السودان بمجرد عودته ذهب بنفسه لرئاسة جهاز الأمن والتقى بالموظفة وأوصل لها أغراضها الشخصية وطمأن أسرتها عليها وظل دائم السؤال عنها حتى أطلق سراحها .أما المثال الثاني فمن شركه زين جنوب السودان التي كان مشرفآ على إدارتها حيث اندلع نزاح مسلح بين اجنحه الحركه الشعبيه الحاكمه في جوبا 2013 و تدهور الوضع الامني بالمدينه و اصبحت عمليات إجلاء الاجانب محفوفه بالمخاطر فما كان منه الا ان قاد طائره زين و حبط في جوبا و اجلا موظفي زين الاجانب و عاد بهم للخرطوم. اما المثال الاخير فقد ربطته علاقة عمل رسمية بالسيد /عبد العزيز نور عُشر -أخ قائد حركة العدل والمساواة -الذي أعتقل في أعقاب هجوم الحركة على أم درمان، لم يتدخل سعادته في أمر الإعتقال أو المحاكمة ولكنه حرص على السماح له بزيارته وهو ماتحقق له بعد عدة محاولات، وفي كل الامثله كان دائما ما يعلي القيم الانسانيه و الوفاء لمنسوبيه.
5ـ مع لجنة التمكين

في العام 2019 وبعد التغيير السياسي الذي حدث في السّودان، اسّتهدفه موتورو ما يسّمي بلجنة تفكيك التمكين ورغم أن المرض داهمه في تلك الفترة، إلا أن شخصيته القوية والمتحديه لم تترك له خياراً سوى مواجهة هذا الإسّتهداف الذى بدأ ضد زين بإتهامات ملفقة وتشويه سّمعة خبيث، وطمع واضح في الإسّتيلاء على إدارة الشركة، ولما لم يجدوا منه إستجابة أداروا المعركة ضّده هو شخصياً بإغلاق حسّاباته المصرفية وتجميد أرصدته وإصدار أوامر بالقبض عليه، ويبدو أن جهلهم بشخصيته وحقدهم الطائش، لم يمكنهم من تجنب هذه المعركة معه، ولم تفلح كل وسّائلهم وأسّاليبهم في تراجعه وأصبح هو من يحاصرهم ويطاردهم بالقانون وفتح فيهم بلاغات بإشانة السّمعه والكذب الضار وهم في أوج سّلطتهم وكبريائهم المزيّف، وفشلت كل مسّاعيهم للتسوية أو شطب البلاغ. وفي نهاية المطاف أنصفته المحاكم وأعادت إليه ممتلكاته المصادرة ورفعت الحظر عن حساباته وشطبت جميع البلاغات.
رغم كل ما عاناه شخصياً وما حاق بمؤسسته (زين) لم يحرّف ذلك بوصلته، بل ظل على تواصلٍ مع المسّؤولين في قمة الدولة، يمنحهم نصائحه وخبرته وعلاقاته وهو ما تضاعف بعد نشوب الحرب، فكان على تواصل غير منقطع مع رأس الدولة وأعضاء المجلسّ السّيادي والوزراء الذين حرصوا على الإتصال به ومشاورته والأخذ بنصائحه ، ولم يقتصر ذلك على المسّؤولين بالقمة، بل كان على تواصل مع عدد كبير من القادة المدنيين والعسّكريين، مهموماً بوطنه وأهله، يتابع بقلق مجريات الحرب ويسأل عن الشهداء والأسّرى ويعزي أسر الراحلين.
ظلت كل مواقفه طوال نصف قرن تتسق مع وصفه لنفسه أنه (ليس سياسي بل مهني مُسيّس)
هو هكذا في كل مجال عمل به بالقوات المسلحة أو الأمن أو الخارجية أو شركة زين منذ أن عرفته قبل 35 عاماً، طاقة لا تنفذ وحرص على الإنجاز وسباق مع الزمن , كان صاحب رسالة وذو همة عالية لا تعرف المستحيل أو اليأس، يتجلى عند التحديات والمحن مقاتلاً بالسلاح جندياً وبالكلمة دبلوماسياً وبالرأي والفكر والتخطيط إدارياً واقتصادياً، ثبات على المواقف وشجاعة في إبداء الرأي وإعمال العقل وهو ما قاده للنجاح رغم تقاطعات العلاقات الدولية والأوضاع الإقليمية والسياسة الداخلية.
6ـ معركته الأخيرة

خاض معركته الأخيرة في الحياة مع المرض الذي داهمه في نوفمبر 2019 وظل لخمس سّنوات ونصف كما هو الفاتح عروة الذي عرفه الجميع، شجاعة تفوق الوصف في مواجهة الموت وسّماحه مدهشة في التصافي والسّمو، لم يكن غريباً أن يخرج ليعلن لأحبائه نبأ إصابته بالمرض ورضائه بالإبتلاء، بل زاد نشاطه وسّعيه رغم آلام المرض القاسّية، كان في سّباق مع الزمن ليكمل رسّالته ويؤدي الأمانة لبلده وأهله، ورغم تضاعف الأعياء وتعب الجسّم، ظلت روحه كما هي مهمومة بالسّودان وشعبه ويحرص حتى في أيامه الأخيرة على تواصل عمل الشركة واسّتمرار خدماتها، يسّأل عن عودة الخدمة للمناطق المحررة ويطلب توصيل المسّاعدات لخلاوى (ود الفادنى) بالجزيرة ويحمسّ ابنائه موظفي زين بتجويد الأداء.
رحم الله أبا المجتبى ابنه البكر ولهذا الإسّم قصة ذات دلالة، فقد سّماه على معتقل سّياسّى في السّبعينيات من القرن الماضي في أيام عمله بجهاز الأمن كان مقتنعاً ببراءته من التهمة التي أعتقل بسّببها، وعمل على إطلاق سّراحه وعندما رُزق بأول مولود له، سّماه محمد المجتبى، ولم يلتق بعدها بهذا المعتقل ولا يعرف عنه سّوى أنه من ابناء منطقة الجزيرة.
لم ينس أن يسجل تجربته وسيرته في حلقات متعددة على اليوتيوب بعنوان (الساموراي) وسجل حلقة كامة لقناة الجزيرة الفضائية (الجزيرة بودكاست) استمرت لخمس ساعات جذبت ملايين المشاهدين ، ومع ذلك فإن الكثير من أعماله وانجازاته المهنية والوطنية لم تعرف بعد , وندعو الله أن يتيسر إبرازها لتعلم الأجيال تجاربه ومبادئه المثلى.
في غدٍ يعرفُ عنا القادمون
أيَّ حب قد حملناه لهم
في غدٍ يحسبُ فيهم حاسبون
كم أيادٍ أسلفت منا لهم
في غدٍ يحكون عن أنَّاتنا
وعن الآلام في أبياتنا
وعن الجرح الذي غنى لهم
كل جرحٍ في حنايانا يهون حين يغدو مُلهما يُوحي لهم
جرحُنا دامٍ ونحن الصامتون حزننا جمٌّ ونحن الصابرون
فابطشي ما شئتِ فينا يا مَنون
كم فتًى في مكة يشبه حمزة؟
توفى (عابد) وهذا هو الإسم الحركي الذي إختاره لنفسه إبان عمله في أحد الأجهزة الأمنية، رحمه الله رحمة واسّعة بأكثر مما أعطى وأنجز، رحل وبلده أحوج ما يكون لأمثاله من أصحاب الرأي السديد والشجاعة والجسارة والصبر، كان شهماً، كريماً، شجاعاً لا تأخذه في الحق لومة لائم ، وفياً لكل من عرف، حريصاً على وصل رحمه، ترك بصمة في كل مكان وفي كل مجال عمل به , وإرثاً يستحق أن تستفيد منه الأجيال . نسّأل الله أن يجعل البركة في ذريته وأهله وأن يغفر له ويتجاوز عن سّيئاته، وأن يجعل مرضه وصبره عليه كفارة له من كل الذنوب. اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره وأرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)
إنها حقاً سيرة عطرة لرجل شجاع وقائد تحويلي فذ. رحمه الله رحمة واسعة ومغفرة عظيمة. فقدة جلل وعظيم ولكنها أقدار الله والأجل المحتوم.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
د. سيف الدولة بشير عبدالله