الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

العملات الرقمية في السودان .. من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد التحول

منذ فجر التاريخ، كانت مسيرة الإنسان سلسلة من الثورات الكبرى التي غيّرت وجه الحياة على الأرض. بدأت بالثورة الزراعية التي علّمت الإنسان الاستقرار، ثم الثورة الصناعية التي فجّرت الإنتاج، وصولًا إلى ثورة الاتصالات التي ربطت العالم في شبكة واحدة. واليوم، يعيش العالم على أعتاب ثورة جديدة في المال والاقتصاد فى عصر العملات الرقمية.
العملات الرقمية ليست مجرد صيحة تكنولوجية، بل هي تحوّل جذري في طريقة تبادل القيمة والثقة بين البشر. وكما مثّل اختراع الورق أو الإنترنت نقطة تحول في التاريخ، تمثل العملات الرقمية اليوم بداية مرحلة مالية لا مركزية، لا تتحكم فيها الحكومات والبنوك وحدها، بل الأفراد أنفسهم.
خلال السنوات الأخيرة، تراجعت ثقة كثيرين في العملات الورقية بعد موجات التضخم العالمية، وبدأت الأنظار تتجه إلى الأصول “المضادة للتضخم” مثل الذهب والبيتكوين. وتشير البيانات إلى أن الذهب ما زال يتصدر المشهد بقيمة سوقية تقارب 26 تريليون دولار في أكتوبر 2025، تليه الفضة بنحو تريليوني دولار، ثم البيتكوين الذي تجاوز 2.3 تريليون دولار، ليصبح فعليًا “ذهبًا رقميًا” ينافس المعادن النفيسة في حفظ القيمة.
في المنطقة العربية، تسير الدول في اتجاهات متباينة. فقد اختارت المملكة العربية السعودية تنظيم التعامل بالأصول الرقمية ضمن رؤيتها للتحول الاقتصادي، بينما وضعت الإمارات إطارًا تنظيميًا للأصول الافتراضية يعمل على جذب الاستثمارات وتعزيز الاقتصاد الرقمي. وفي المقابل، تتخذ دول أخرى و منها مصر موقفًا أكثر تحفظًا، إذ ما زال تداول العملات المشفرة محظورًا قانونًا بها.
هذا التباين يعكس اختلاف المقاربات العربية تجاه التكنولوجيا المالية الحديثة بين الحذر والانفتاح.
أما في إفريقيا، فقد أصبحت القارة واحدة من أسرع المناطق نموًا في تبني العملات الرقمية، بحسب تقارير Do4Africa وStatista. ويُعزى ذلك إلى تحديات التحويلات المالية التقليدية، وارتفاع كلفة المعاملات البنكية، وضعف الشمول المالي. في هذه البيئة، برزت العملات الرقمية كوسيلة عملية وآمنة لإرسال الأموال، خصوصًا عبر العملات المستقرة مثل USDT، التي تتيح تحويل القيمة عبر الحدود بسرعة عالية وبتكلفة منخفضة.
وفقًا لتقرير Chainalysis لعام 2025، تلقت دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تحويلات رقمية بقيمة 205 مليار دولار بين يوليو 2024 ويونيو 2025.
وفي السودان، الذي يعيش مرحلة دقيقة بعد إندلاع حرب 2023، بدأت العملات الرقمية تفرض وجودها كأداة مالية بديلة. فقد أتاحت للأفراد وسيلة لتحويل الأموال من الخارج إلى الداخل في ظل تعطل القطاع المصرفي وصعوبة التحويلات التقليدية. يستخدم كثير من السودانيين اليوم عملات مستقرة مثل USDT لدعم عائلاتهم أو لتسيير أعمال صغيرة، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجه القطاع المصرفي وصعوبة الوصول إلى الخدمات المالية التقليدية.
و تشير الإحصاءات المتخصصة إلى أن معاملات العملات الرقمية في السودان تضاعفت خلال عام 2025، ما يعكس نموًا سريعًا رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.
ورغم ذلك، يحمل هذا التبني مخاطر واضحة. فالتقلبات السعرية قد تؤدي إلى خسائر كبيرة، كما تحذر السلطات المالية من مخاطر الاحتيال والجرائم الإلكترونية المرتبطة بالعملات الرقمية. كذلك، يواجه التعدين تحديات مثل انقطاع الكهرباء ومخاطر المصادرة، إضافة إلى احتمال فرض ضرائب مستقبلية على الأرباح الرقمية. كل ذلك يؤكد الحاجة إلى تنظيم واضح يوازن بين التشجيع والحماية.
قانونيًا، لا يُحظر تداول العملات الرقمية في السودان، كما أن تعدينها مسموح به وفق ضوابط تتعلق بالطاقة والتسجيل، بحسب تقارير متخصصة مثل مدونة uPay. ورغم غياب هيئة تنظيمية وطنية، فإن السوق السوداني منفتح على المنصات العالمية مثل Binance وKuCoin، مما يجعل الحاجة ملحّة لوضع إطار قانوني محلي يحمي المستخدمين وينظم التعاملات.
ومع بدء الحديث عن مشروعات إعادة إعمار السودان بتكلفة تقديرية تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات وفق تقارير حكومية، تبدو التقنيات المالية الحديثة — وفي مقدمتها العملات الرقمية — خيارًا منطقيًا لتسريع تدفق الأموال ودعم الاقتصاد غير الرسمي، خاصة في المناطق التي يصعب فيها وصول البنوك والمؤسسات التقليدية.
العملات الرقمية ليست بديلًا فوريًا للنظام المالي، لكنها قد تكون جسر العبور نحو اقتصاد أكثر انفتاحًا ومرونة. إنها لحظة “كتلة حرجة” تتقاطع فيها التكنولوجيا مع الحاجة الإنسانية والاقتصادية.
فالسودان الخارج من أتون الحرب يمتلك فرصة نادرة لاحتضان هذه الثورة، لا كمغامرة رقمية، بل كخيار وطني لإعادة الإعمار واستعادة الثقة في المستقبل.

اترك رد

error: Content is protected !!