العقوبات الأميركية على السودان: استراتيجية ثابتة رغم تغيّر الأنظمة

جاء حديث الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان قبل يومين، أمام قادة القوات المسلحة والأجهزة النظامية، ليكشف جانبًا مهمًا من الدور الأميركي في إدارة الحرب السودانية، وليرفع الغطاء عن مواقف الرباعية، والورقة التي قدّمها المبعوث الأميركي مسعد بولس للرئيس ورفضتها اللجنة العسكرية باعتبارها تمس جوهر السيادة الوطنية. ما قاله البرهان لم يكن توصيفًا عابرًا، بل كان تأكيدًا عمليًا على أن الولايات المتحدة ما زالت تتعامل مع السودان بمنطق الضغط والإملاء، وأن العقوبات ليست رد فعل على نظام حاكم، بل استراتيجية أميركية ثابتة تستهدف ترويض السودان وإبقائه ضمن هوامش النفوذ الغربي، ومنعه من أي استقلال في القرار السياسي أو التعاون الدولي خارج المظلة الأميركية.
ولعل قراءة تاريخ العقوبات الأميركية على السودان الممتد منذ ستينيات القرن الماضي وحتى حرب “2023م” و تداعياتها حتى هذه اللحظة، يؤكد أن السودان رغم تبدّل الأنظمة المدنية والعسكرية فيه، ظلّ يتلقى السياسة ذاتها بمتلازماتها من العقوبات، الحصار، الضغوط، واستخدام الملفات الإنسانية والسياسية سلاحًا لإعادة هندسة الدولة بما يخدم المصالح الأميركية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي والساحل.
تاريخ العقوبات الأميركية على السودان – مسار ثابت رغم تغيّر الأنظمة
و اذا ما وثقنا و بشكل مختصر لهذا المسار، يتضح الاتي:
1958م: بداية الضغوط بسبب استقلال القرار السياسي
بدأت أولى الإجراءات العقابية حين قرر السودان إقامة علاقات مع الصين الشعبية في سياق الحرب الباردة، فجمّدت واشنطن برامج المعونة الفنية والزراعية، وبدأت مرحلة “المراقبة السياسية” التي ستستمر لعقود.
1976م: تضييق بسبب مواقف السودان الإقليمية
في منتصف السبعينيات اتهمت واشنطن الخرطوم بالتقارب مع دول معادية للنفوذ الغربي، ثم بدأت في تعليق التعاون الأمني والعسكري، معتبرة أن السودان لا يسير في الخط الذي تريده.
1989م: وقف المساعدات بعد انقلاب الإنقاذ
فور استيلاء حكومة الإنقاذ على السلطة، أوقفت الولايات المتحدة المساعدات الاقتصادية وبدأت مرحلة الضغوط المباشرة، بحجة التخوّف من التوجه الإسلامي وتقارب الخرطوم مع إيران وليبيا.
1993م: إدراج السودان على قائمة “الدول الراعية للإرهاب”
شكّل هذا القرار تحوّلًا خطيرًا في علاقة السودان بالغرب. السبب المعلن كان “وجود مجموعات راديكالية في الخرطوم”، أما السبب الحقيقي فهو استقلال القرار السوداني، وتقارب الخرطوم مع طهران وبغداد وحركات التحرر.
1997م: العقوبات الشاملة
أصدر الرئيس الأميركي بيل كلينتون الأمر التنفيذي (13067)، وهو أخطر إجراء عقابي في تاريخ السودان،حيث شمل حينها تجميد الأصول، حظر الاستثمار، القيود المصرفية، وحصارًا اقتصاديًا كاملًا.
هذه العقوبات استهدفت شلّ قدرة الدولة على النمو، ومنع السودان من استثمار موارده النفطية والزراعية والبحرية.
2006م: عقوبات دارفور – التدويل عبر البوابة الإنسانية
استغلت واشنطن أحداث دارفور لفرض عقوبات جديدة على قادة ومسؤولين سودانيين، ودفعت بملف الإقليم إلى المحكمة الجنائية الدولية، وبدأت سياسة عزل الخرطوم دوليًا.
2020م: تخفيف العقوبات مقابل الابتزاز السياسي والمالي
حينها رفعت الولايات المتحدة السودان من قائمة الإرهاب، ولكن مقابل على سبيل الاستغلال و الابتزاز تم فيه:
دفع تعويضات بمئات الملايين
الدخول في مسار التطبيع
قبول شروط صندوق النقد الدولي
اتفاقات اقتصادية مرهقة
ورغم “الرفع”، بقيت القيود الأساسية على النظام المصرفي والتحويلات قائمة.
2023م–2025م: عقوبات الحرب الحالية وإعادة هندسة السلطة
بعد اندلاع حرب 15 أبريل، استخدمت واشنطن ملفات حقوق الإنسان، والعقوبات الفردية، والضغوط على الحلفاء، لإضعاف موقع الدولة السودانية، ومنع الجيش من حسم المعركة، ودعم مسارات التسوية التي تمنح القوى الخارجية فرصة أكبر في إعادة صياغة المشهد السياسي.
الولايات المتحدة – تاريخ من المواقف السالبة تجاه السودان
منذ استقلال السودان في العام 1956م،تعاقبت على الحكم عدد من الأنظمة، وتعددت هذه الانظمة ما بين ديمقراطية، عسكرية، إسلامية، انتقالية، و تخللتها عدد من الثورات و الانتفاضات الشعبية، لكن موقف واشنطن لم يتغيّر.
ومنذ 1958م وحتى اليوم، اتخذت أميركا تجاه السودان نمطًا ثابتًا من السلوك؛ لعل ابرز ما يمكن ان ندلل به على ذلك التالي:
إيقاف شركة شيفرون بعد اكتشاف النفط:
كانت شيفرون في الثمانينيات قريبة من تدشين أكبر مشاريع النفط في إفريقيا. وفجأة انسحبت بقرار سياسي أميركي، تاركة السودان غارقًا في الحرب. ولو استخرج السودان نفطه حينها، لتغيّر شكل الاقتصاد والبنية التحتية ولأصبح السودان دولة نفطية منذ التسعينيات و لربما كان ذلك قد غير كثيرًا من واقع اليوم.
تبني جون قرنق ورعايته حتى الانفصال:
حيث دعمت واشنطن الحركة الشعبية سياسيًا وعسكريًا. وضغطت على الحكومات المتعاقبة للقبول بالشروط الأميركية. ثم دفعت في النهاية الجميع نحو الانفصال، وهو الهدف الاستراتيجي الأكبر” تقسيم السودان وإضعاف مركزه الجغرافي”.
دعم التدويل في ملف دارفور:
حيث رعت استخدام المحكمة الجنائية، ثم مارست الضغط على الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، مع توظيف الإعلام والمنظمات الدولية لتشويه صورة الدولة.
الدفع نحو تسويات تُضعف سيادة الدولة:
وهو ما ظلت تمارسه اميركا كما حدث في جوبا 2005م، وأديس أبابا 2014م، والوثيقة الدستورية 2019م، ومقترح مسعد بولس المرفوض 2025م. لقد كانت واشنطن دائمًا هي الطرف غير المعلن في كل تسوية سودانية منذ 2005م، عبر الضغط، والتمويل، وإدارة المانحين.
لماذا تعادي واشنطن السودان بغض النظر عن النظام الحاكم؟
لأن السودان يمتلك عناصر قوة لا تريد الولايات المتحدة أن تتحوّل إلى نفوذ مستقل دون احكام قيادها و اتمام سيطرتها عليه، فالسودان يمتلك:
موقع استراتيجي على البحر الأحمر
موارد زراعية هائلة
مقدرات معدنية وبترولية
ساحة مؤثرة على مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان
إمكانات عسكرية كبيرة
كتلة ديمغرافية وإقليمية مؤثرة
ولذلك تعمل واشنطن على:
إضعاف الدولة المركزية عبر دعم المليشيات، وفرض تسويات هشّة، وتمديد الصراع.
منع أي تقارب مع الصين أو روسيا خاصة فالموانئ، التعدين، الدفاع، البترول، البنية التحتية،الاتصالات، الطرق والمطارات، ومشروعات البحر الأحمر.
منع السودان من بناء قدرات دفاعية مستقلة، ويكفي أن ننظر لرفض واشنطن أي تعاون عسكري سوداني–روسي أو سوداني–صيني.
الصين وروسيا، الشريكان اللذان وقفَا مع السودان عندما انصرف الغرب
للصين أدوار كبيرة في السودان، الصين لم تأتِ إلى السودان كقوة سياسية تبحث عن نفوذ بل جاءت كمحرك تنموي، وبالاضافة لدورها الدبلوماسي الكبير خاصة في مجلس الامن، فقد ساهمت في الاتي:
البترول: استخرجته الصين عندما رفضت أميركا، وأصبح عماد الاقتصاد السوداني.
البنية التحتية: الطرق، الكباري، المطارات، محطات الكهرباء، السدود.
الموانئ: تطوير جزء من البنية الساحلية.
الزراعة والري: مشاريع نموذجية في الجزيرة والرهد ومناطق أخرى.
التجارة والاستثمار: الصين هي الشريك التجاري الأول للسودان.
التعدين: التكنولوجيا، التمويل، التنقيب.
الصناعات الدفاعية: دعم تكنولوجي وعسكري مهم و نقل تكنولوجيا و تقانة و انشاء بنى تحتية.
التسليح: توفير معدات لم تجرؤ الدول الغربية على بيعها.
الصين لم تطلب مقابلًا سياسيًا… ولم تستخدم المجتمع المدني ولا الإعلام ولا المنظمات كأدوات ضغط.
ولروسيا كذلك ادوارها في السودان، روسيا قدّمت كثيرًا دعمًا للتعدين، شراكات في البترول، تسليحًا حديثًا، تعاونًا عسكريًا مباشرًا، دعمًا دبلوماسيًا في مجلس الأمن.
و يظل أهم ما فعلته موسكو وبكين معًا هو منع صدور عشرات القرارات العدائية ضد السودان في مجلس الأمن منذ 2003م وحتى الآن. ومع أن بكين وموسكو ليستا جمعيات خيرية، إلا أن منهج تعاملهما يقوم على المصالح المتبادلة لا الهيمنة السياسية.
العقوبات الأميركي وأثرها على مستقبل السودان
العقوبات لم تكن مجرد إجراءات اقتصادية، بل كانت أداة لإعادة تشكيل الدولة:
حرمت السودان من التكنولوجيا
اقعدت بالاقتصاد و التنمية
شلّت النظام المصرفي
منعت الاستثمار
أعاقت استخراج النفط لسنوات
أعاقت تطور الصناعات الدفاعية
وضعت السودان في خانة الدول الهشة
هيأت البيئة للانفصال
دعمت ظهور المليشيات والسلاح غير الشرعي
وأخيرًا، أثرت في مسار الحرب الحالية
و إن كان من ثمة نصائح و توصيات لدوائر صنع القرار و اتخاذه، فنرى ضرورة القيام ببعض الترتيبات:
إعادة بناء السياسة الخارجية السودانية على أساس التوازن شرقًا وغربًا مع ضمان استقلال القرار الوطني.
تعميق الشراكات مع الصين وروسيا في البنية التحتية والدفاع والطاقة.
إطلاق استراتيجية وطنية للبحر الأحمر تحمي الاستقلال البحري والموانئ.
وضع خطة مع تنفيذها لتطوير الصناعات الدفاعية لتعويض القيود الأميركية.
إعادة هيكلة الاقتصاد بعيدًا عن النظام المصرفي الغربي.
تفعيل الدبلوماسية الاستراتيجية عبر تحالفات إقليمية في القرن الأفريقي والساحل.
التمسك بسيادة الدولة ووحدة الجيش كخط أحمر في أي تفاوض.
لقد تغيّرت الأنظمة في السودان: ديمقراطية، انتقالية، عسكرية، إسلامية، لكن لم تتغير السياسة الأميركية. والعقوبات، الضغوط، الإملاءات، دعم التمرد، ورعاية التفكيك ظلت هي
أدوات ثابتة في الاستراتيجية الأميركية تجاه السودان.إن السودان لا يخسر حين يختلف مع أميركا؛ إنه يخسر فقط عندما يتخلى عن استقلال قراره.
وقد أثبت التاريخ أن البديل الاستراتيجي الطبيعي للسودان، في التنمية والدفاع والبنية التحتية والسيادة الوطنية، هو التوجه شرقًا نحو الصين وروسيا، دول لا تبيع المواقف، ولا تستخدم العقوبات، ولا تتدخل في شؤون الدول، ولا تستخدم “حقوق الإنسان” كسلاح سياسي. والسودان اليوم على أعتاب مرحلة جديدة؛
فإما أن يكون دولة ذات قرار مستقل، أو أن يظل مسرحًا مفتوحًا للعقوبات والضغوط والتدويل.
والخيار – كما أثبتت الحرب – لا يملك رفاهية التأجيل، ولأول مرة منذ عقود، يملك السودان فرصة لإعادة رسم موقعه الدولي بعيدًا عن منطق الإملاءات.
الثلاثاء 25 نوفمبر 2025م



