العصبية ومليشيا الدعم السريع: قراءة ابن خلدون في وهم القوة المدعومة خارجيًا

الإطار النظرى:
ليست كل الجماعات المسلحة نتاج تفوق عسكري ذاتي، ولا كل مظاهر التماسك دليلًا على قوة داخلية راسخة. أحيانًا، يكون ما يبدو عصبيةً صلبة ما هو إلا تماسك مؤقت تُبقيه الأموال والسلاح والدعم الخارجي قائمًا، إلى أن تنقطع الأسباب فينهار البناء دفعة واحدة. في هذا السياق، يقدّم منظور ابن خلدون إطارًا بالغ الأهمية لفهم طبيعة مليشيا الدعم السريع، وحدود قدرتها على الاستمرار.
العصبية كما عرفها ابن خلدون
في مقدمته الشهيرة:
يعرف ابن خلدون العصبية بوصفها رابطة التضامن والولاء المشترك التي تجمع أفراد الجماعة، وتمنحهم القدرة على الفعل الجماعي، والدفاع عن المصالح، وفرض النفوذ. غير أن هذه العصبية، في نظره، ليست ثابتة ولا أبدية؛ بل كائن حيّ يقوى بالقيم المشتركة والالتزام الداخلي، ويضعف كلما استُعيض عن هذه الروابط بعوامل خارجية أو مصالح مؤقتة.
الأخطر في منطق ابن خلدون أن العصبية قد تستمر شكليًا بعد تآكلها جوهريًا، إذا ما وُجد مالٌ أو سلاحٌ أو سندٌ خارجي يمكنه تأجيل لحظة الانهيار، لكنه لا يمنعها.
مليشيا الدعم السريع: العصبية المنقوصة:
يمكن النظر إلى مليشيا الدعم السريع بوصفها جماعة تمتلك قدرًا من العصبية الأولية أو البدائية، نابعة من روابط قبلية وشخصية، ومن ولاء مباشر لقيادتها، وهو ما منحها قدرة نسبية على الحركة السريعة والحشد والقتال. غير أن هذه العصبية، وفق منطق ابن خلدون، تظل محدودة الأفق، وغير قابلة للتحول إلى عصبية دولة، أو حتى عصبية مستقرة طويلة الأمد.
وهنا يصبح من المهم التنويه إلى خطأ شائع في التحليل: تشبيه هذه الحالة بجيوش أو دول تاريخية كبرى. فابن خلدون نفسه يفرّق بين العصبية التي تُنتج دولة، والعصبية التي لا تتجاوز طور الغلبة المؤقتة. وبعبارة أوضح: لا تُقارن الثريا بالثرى، ولا يُقاس تنظيم مليشياوي مستحدث، مهما امتلك من سلاح، بتجارب تاريخية قامت على مشروع سياسي أو أخلاقي أو حضاري.
حين حل المال محل العصبية
لم يصبح تماسك مليشيا الدعم السريع قائمًا على العصبية وحدها، بل بات أكثر اعتماداً على تدفّق الموارد والدعم الخارجي. وهنا يدخل العامل الاقتصادي، الذي ينظر إليه ابن خلدون بوصفه مُسكّنًا لا علاجًا، يطيل عمر الجماعة، لكنه يضعف روحها الداخلية.
في هذا السياق، كشفت تحقيقات صحفية دولية خلال عام ٢٠٢٥ عن تجنيد مئات المرتزقة الكولومبيين، غالبيتهم من الجنود السابقين، للقتال إلى جانب مليشيا الدعم السريع، عبر شبكات معقّدة تمتد من كولومبيا إلى الإمارات. هؤلاء المقاتلون، الذين يتقاضون رواتب مرتفعة تتراوح بين ٢٦٠٠ و٤٠٠٠ دولار شهريًا، تلقّى بعضهم تدريبات خارج السودان قبل نقلهم إلى دارفور.
من منظور ابن خلدون، لا يمثّل هؤلاء المرتزقة إضافة حقيقية للعصبية، بل علامة على غيابها. فالمرتزق لا يقاتل بدافع الانتماء، ولا يحمل ولاءً طويل الأمد، بل يتحرك وفق منطق السوق: ما دام الدفع قائمًا، يستمر القتال؛ وحين يتوقف، ينهار التماسك سريعًا.
وهم القوة وطول أمد الحرب
قد يحقق هذا النمط من الدعم تفوقًا ميدانيًا موضعيًا مؤقت، أو يسمح بحسم معركة هنا أو هناك، لكنه في العمق يزرع بذور الهشاشة. فالجماعة التي تعتمد على المال والسلاح الأجنبي أكثر مما تعتمد على رابطة داخلية صلبة، تكون شديدة الحساسية لأي ضغط خارجي: عقوبات، تغيّر مواقف إقليمية، أو حتى كلفة سياسية متزايدة على الكفيل.
وهنا تتقاطع القراءة الخلدونية مع الواقع الراهن للمليشيا: فالدعم الخارجي، مهما بلغ حجمه، لا يصنع عصبية حقيقية، ولا يؤسس لاستقرار، بل يطيل أمد الصراع، ويُبقي العنف في دائرة مفرغة، مع ما يصاحبه من انتهاكات جسيمة واتهامات دولية بارتكاب جرائم واسعة النطاق.
نظرة مستقبلية:
وهنا يمكننا استحضار معيار أخلاقي فلسفي كلاسيكي يتكامل مع رؤية ابن خلدون: قبل أن يتولى أي قائد منصبًا أو سلطة، يجب أن يجتاز اختبارين أساسيين يختبران جوهر نزاهته. الأول: هل يحافظ على عدله وأخلاقه لو أعطي سلطة مطلقة دون رقابة أو عقاب، فلا يفسد بالغلبة والقوة، والثاني: هل يصمد في مبادئه لو وقع تحت وطأة ضعف شديد أو فقر أو تهديد، دون أن يبدل ولاءه مقابل النجاة أو الراحة؟
القائد الحقيقي – والعصبية الصلبة – هو ما ينجح في الاختبارين معًا. أما الجماعة التي تعتمد على مرتزقة يقاتلون مقابل المال، أو دعم خارجي يُدار بالمصالح، فهي تفشل في كليهما: تفسد بالسلطة المؤقتة، وتنهار حين ينقطع الدعم.
خاتمة:
وفق منطق ابن خلدون، لا تُهزم الجماعات المسلحة حين تبلغ ذروة قوتها، بل حين تتجاوز الكتلة الحرجة التي يصبح بعدها التماسك مكلفًا، والدعم الخارجي عبئًا، والولاء سلعة قابلة للانفصال. عند تلك النقطة، لا يحتاج الانهيار إلى هزيمة كبرى، بل يكفي خلل محدود في التمويل أو القيادة أو الغطاء السياسي.
هكذا، يقدّم لنا ابن خلدون درسًا يتجاوز التاريخ: القوة التي لا تقوم على عصبية حقيقية، لا تسقط فجأة، لكنها تنهار حتمًا حين ينتهي دور المال في ملء الفراغ.



