
منذ أن ضجّت الأسافير بخبر نية الدولة نقل العاصمة الإدارية من الخرطوم، حيث شارع النيل بكل ما يحمله من رمزية تاريخية وثقافية، بدا وكأننا أمام لحظة فاصلة بين الماضي والمستقبل. البعض قرأ الفكرة على أنها مجرد قرار إداري لتخفيف ازدحام المدينة، فيما رآها آخرون مغامرة محفوفة بالمخاطر. غير أن جوهرها أعمق بكثير من هذه القراءات السطحية، فهي مشروع اقتصادي، تنموي، ورمزي إذا أُحسن تدبيره.
العاصمة ليست جغرافيا فحسب، بل هي رسالة. وإذا كان شارع النيل قد حمل لسنوات طويلة رمزية السودان السياسي والإداري، فإن الانتقال إلى فضاءات جديدة، مثل السهول المسطحة الممتدة بين الجيلي وشندي او غيرها ، يمكن أن يكون رسالة ميلاد لحقبة مختلفة. في تلك الأراضي البكر، التي ما تزال تنتظر اليد التي تستصلحها وتبنيها، يمكن أن ينشأ حلم مدينة حديثة مخططة بعناية، تليق بطموحات الأجيال المقبلة، وتستوعب المستقبل بتقنياته ومؤسساته واحتياجاته.
الفرصة هنا ليست في المباني الحكومية وحدها، وإنما في المشروع الاقتصادي الذي يمكن أن يصاحبها. فحين تُستصلح هذه الأراضي وتُمد بالبنية التحتية من طرق وجسور ومياه وكهرباء، فإن قيمتها سترتفع أضعافاً مضاعفة. وحين تُعرض للبيع أو الاستثمار، سواء بالجنيه أو بالعملات الصعبة، فإن الدولة تكون قد فتحت منفذاً جديداً لجذب الكتلة النقدية وتوظيفها في بناء مشروع استراتيجي. بل إن العائد يمكن أن يسهم مباشرة في تقليل عرض النقود وامتصاص التضخم، وهو ما يشكل أكبر وجع الوطن اليوم، ويفتح الباب لرفع قيمة الجنيه واستعادة بعض من توازنه .
لكن العاصمة الجديدة ليست مجرد أرقام ومعادلات نقدية، إنها أيضاً فرصة لتوزيع التنمية على جغرافيا ظلت بعيده عن التنمية لسنوات. فالمشاريع الكبرى تجلب الناس، وتجلب الخدمات، وتجذب الاستثمارات، وتحرك الصناعات الوطنية. مدينة جديدة تعني فرص عمل، تعني مدارس ومستشفيات، تعني مصانع وأسواق، وتعني قبل ذلك وبعده تغييراً في الخريطة السكانية والاقتصادية للبلاد وانتشار اوسع.
كم من دول حولنا بنت لنفسها عواصم جديدة، ليس فقط لتخفيف الضغط عن عواصمها التاريخية، وإنما لتعلن عن ميلاد مشروع وطني جديد، من القاهرة الإدارية إلى أبوجا ودار السلام. والسودان ليس استثناءً، بل هو أحوج من غيره لهذه الخطوة، بعد سنوات الحرب التي أنهكت مدنه وأضعفت اقتصاده وأفرغت خزائنه.
إنها لحظة نادرة، حيث يمكن أن يتحول التفكير في نقل العاصمة إلى أداة اقتصادية ذكية، تستصلح الأرض وتستقطب النقد وتخفف التضخم وتبني الثقة. لحظة نستطيع فيها أن نحول الأزمة إلى فرصة، وأن نجعل من الخراب بداية لعمران.
ليس المطلوب أن ننقل العاصمة فحسب، بل أن نحلم. بمدينة تُبنى من الصفر، لا تُثقلها العشوائية ولا تقيّدها أخطاء الماضي. مدينة تتنفس على سعة السهول، وتفتح ذراعيها للمستقبل. فالعاصمة ليست حجراً وإسمنتاً، بل هي انعكاس لروح أمة تقرر أن تبدأ من جديد.