
في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد، والتي أفرزتها تداعيات الحرب والانقسامات الداخلية، يُعد النزول إلى القواعد الجماهيرية خطوة في الاتجاه الصحيح. التحركات الأخيرة لقيادات الدولة السودانية، وعلى رأسهم رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى جانب لجنة الفريق جابر، ورئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس، تمثل انتقالاً نوعياً من العمل المؤسسي المغلق إلى نهج شعبي أكثر التصاقاً بالمواطن وهمومه. ولكن، هل يكفي هذا التحول؟ وهل يُمكن البناء عليه لتأسيس دعم جماهيري حقيقي للأجندة الوطنية؟
أولاً: فهم المزاج العام للشارع السياسي السوداني.
الشارع السوداني لا يشبه ذاته قبل سنوات. لقد تغيرت ملامحه بفعل الحرب، الأزمات الاقتصادية، عدم الاستقرار السياسي، والهجرة الداخلية الواسعة. لفهمه بشكل عميق، يجب الانتباه إلى ثلاث محاور:
- الإنهاك العام: المواطن السوداني يعاني من تراكم الأزمات ما جعله أكثر عزوفاً عن الخطابات السياسية غير الفاعلة.
- الوعي المتزايد: رغم الإنهاك، يمتلك الشارع درجة غير مسبوقة من الوعي بالقضايا الوطنية، مما يجعله قادراً على تمييز الصادق من المتاجر بقضاياه.
- التعطش للقيادة الملهمة: الشارع لا ينتظر من القيادات وعوداً بل أفعالاً؛ يريد رؤية التغيير على الأرض لا في التصريحات.
ثانياً: متطلبات الشارع والمجتمع السوداني.
لجعل الشارع السياسي السوداني داعماً للأجندة الوطنية، يجب أن تكون تلك الأجندة انعكاساً حقيقياً لمطالبه واحتياجاته، وأبرزها:
- الأمن والاستقرار: فهو الأساس الذي تبنى عليه جميع الإصلاحات. من دون بيئة آمنة، لا يمكن تحريك الاقتصاد أو إعادة البناء.
- العدالة الانتقالية: كثير من الشرائح المتضررة تطالب بإنصافها، مما يجعل العدالة محوراً حيوياً لبناء الثقة.
- الإصلاح الاقتصادي: يجب وضع خطط اقتصادية واضحة تُركز على المواطن البسيط، تشمل تسهيل الوصول إلى الغذاء، الصحة، والتعليم.
- إعادة الإعمار: المدن التي دمرتها الحرب بحاجة إلى برامج إعادة تأهيل تتضمن المجتمع المحلي في قراراتها وتنفيذها.
- الحوار المجتمعي: لا يمكن فرض أجندة وطنية دون مشاركة حقيقية من كل فئات المجتمع، بمن فيهم الشباب، المرأة، والنازحين.
ثالثاً: القضايا التي تهم الشارع السوداني حالياً ومستقبلاً.
لجعل الشارع السوداني داعماً فعلياً للأجندة الوطنية، ينبغي أن يشعر بأن هذه الأجندة تعبر عنه بصدق وتعكس آماله وتطلعاته، سواء في الوقت الحاضر أو على المدى البعيد. فارتباط المواطن بأولويات وطنه لا يتحقق إلا إذا لمس في السياسات العامة انعكاساً لمطالبه، وتجسيداً لرؤيته لمستقبلٍ أفضل.
وفيما يلي أبرز القضايا التي يتعين التركيز عليها لتحقيق هذا الترابط الحيوي بين الشارع السياسي السوداني والأجندة الوطنية:
- بناء مؤسسات الدولة: ضرورة لتنظيم الحكم وضمان العدالة.
- التعليم المجاني: مطلب مهم لتأهيل جيل واعٍ ومثقف.
- التنمية الريفية: أولوية لتحقيق التوازن وتوزيع الثروات.
- مكافحة الفساد : أساس لاستعادة الثقة وتعزيز الشفافية.
إن ترجمة هذه القضايا إلى سياسات واضحة وعملية سيسهم في تعزيز ثقة الشارع ويدفعه نحو المشاركة الفاعلة في دعم الأجندة الوطنية، باعتباره صاحب المصلحة والرؤية في مستقبل السودان. كيف نُحول الشارع إلى داعم فعّال للأجندة الوطنية؟
هذه الخطوة تتطلب أكثر من زيارات ميدانية. التحركات الرمزية يجب أن تتحول إلى برنامج عمل متكامل:
إجراءات مقترحة:
- الانتقال من الخطاب إلى الفعل: تنفيذ وعود القيادات على الأرض لخلق ثقة متبادلة.
- إشراك المجتمع المدني: منظمات المجتمع قادرة على الوصول إلى الفئات المهمشة وتلعب دوراً أساسياً في تنفيذ الأجندة الوطنية.
- تأسيس منصات حوار دائمة: عبرها يُطرح الرأي الشعبي وتُصاغ السياسات وفقاً لمطالبه.
- الشفافية والوضوح السياسي: الشارع السوداني يريد أن يفهم توجهات قيادته دون غموض أو تضليل.
- استراتيجية إعلامية وطنية: لإبراز إنجازات الحكومة والتواصل الفعّال مع المواطنين.
الختام: قلب الهرم لصالح الشعب.
القيادة السودانية اليوم أمام فرصة تاريخية لتصحيح العلاقة بينها وبين الشارع السوداني. فبدلاً من أن تُبنى السياسات في أعلى الهرم وتُفرض على القواعد، يجب قلب المعادلة ليكون المواطن هو مصدر السياسات، وهو المحرك الأول للأجندة الوطنية. هذا يتطلب:
- تفاني في خدمته وليس تفقد أحواله فقط.
- وضوح في الرؤية السياسية لا مجرد شعارات مرحلية.
- تصميم على خلق دولة تستند إلى إرادة شعبها لا مراكز النفوذ التقليدية.
فالمجتمع الذي يشعر بأن قيادته تنتمي إليه وتعمل لأجله، يكون هو الحامي الأول لمكتسبات الوطن.
محمد الحاج
٢٤ يوليو ٢٠٢٥ م