
تقرير يكتبه خالد محمد علي
تزداد الأزمة السودانية الإنسانية تعقيدًا لتصبح الأشد كارثية في العصر الحديث، حيث تتداخل حرب أهلية مدمرة مع انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، وتدمير كامل للبنى التحتية، مع انتشار الأوبئة القاتلة، إضاة إلى المجاعة التي تهدد بفناء الملايين من أبناء الشعب السوداني.
ووفقًا لتقارير المنظمات الدولية فإن هناك أكثر من 30 مليون سوداني يصارعون الموت والأمراض والجوع، من بينهم 16 مليون طفل يدفعون ثمن تمرد الدعم السريع وتواطؤ دول إقليمية ودولية على قتلهم وتدميرهم.
ومن أشد الصور بشاعة الاستهداف الممنهج للقطاع الصحي حيث تحول الميليشيات المستشفيات إلى ثكنات عسكرية، وتستخدم الاغتصابات الجماعية سلاحًا لإذلال الشعب، وتباد قرى بكاملها تحت سمع العالم وبصره، وكل هذا يبرز أن الحرب على السودان ليست تمرد مليشيا على الدولة فقط ولكنها انعكاسًا لمطامع دولية في ثروات السودان، وأحقاد إقليمية على هذا الشعب المتمسك بسيادته ووحدة أراضيه.
ومن خلال تقارير أممية دامغة، وشهادات ميدانية صادمة، يكشف النقاب عن أدوار خفية لدول تتبارى في استغلال المأساة السودانية لنهب ثروات هذا الشعب والسيطرة على مقدراته.
تورط خارجي
تشهد الأزمةُ في السودان تدخلاتٍ خارجيةً مثيرةً للجدل، تفاقم من حدة العنف وتعقد جهود إحلال السلام. ففي جلسةٍ عُقدت بمجلس الأمن الدولي،الماضي، اتهم مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة، الحارث إدريس، دولةالإمارات بتزويد ميليشيا قوات الدعم السريع بأسلحة أمريكية الصنع، مشيرًا إلى أن هذا الدعم يشكل انتهاكًا صريحًا للاتفاقية الثنائية بين واشنطن وأبوظبي، التيتحرم توريد الأسلحة لطرف ثالث.
وأكد إدريس أن هذه الأسلحة تستخدم في “قتل المدنيين السودانيين” وتهديد أمن البلاد، بهدف السيطرة على مواردها الاستراتيجية، وفقًا لوثائق قدمتها حكومته لمجلس الأمن.
وفي هذا الإطار أعلنت الولايات المتحدة عن دراسة الكونجرس إمكانيةَ تعليق تصدير الأسلحة للإمارات، في خطوة تعكس ضغوطًا لوقف الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي.
ومن جهتها، نفت الإمارات هذه الاتهامات عبر بيانٍ رسمي، مؤكدة التزامها بمواثيق السلام الدولي، واصفة التهم بـ”المغالطات التي تهدف إلى تشويه سمعتها”، إلا أن هذه الادعاءات تسلط الضوء على تداعيات التورط الإقليمي في النزاعات الداخلية، الذي يحول الصراع إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية، ويعمق معاناةالمدنيين وسط تصاعد مريع في أعداد الضحايا وتدمير البنى التحتية.
العنف الجنسي كسلاح حرب
تحول العنف الجنسي في السودان إلى أداة وحشيةلإخضاع المجتمع وتفكيك نسيجه الاجتماعي، حيث وثقت تقارير الأمم المتحدة 1,138 حالة اغتصاب في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، تشمل 36 حالة من الاسترقاق الجنسي والاحتجاز القسري، بين ضحاياها أطفال دون الخامسة.
ولا يقتصر هذا العنف على كونه انتهاكًا جسديًا، بل يستخدم سياسيا لإجبار الأسر على النزوح القسري أو تسليم أبنائها للتجنيد في صفوف الميليشيات، كما كان في ولاية الجزيرة، حيث أجبرت عائلات على تزويج بناتها قسرا تحت تهديد السلاح.
وفي جلسة مجلس الأمن، الخميس الماضي، أدانت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا هذه الممارسات، وطالبت بمحاسبة الجناة عبر آليات دولية، ودعمالناجيات عبر توفير خدمات الرعاية النفسية والملاجئ المؤقتة، إلا أن استمرار المليشيا دون عقاب، وتراجع التمويل الدولي لبرامج الحماية، ينذران بتفاقم المعاناة في ظل صمت دولي يغذي ثقافة العنف ويعمق جراح الضحايا.
تدمير المنظومة الصحية وانتشار الأوبئة
أصبحت المنظومة الصحية في السودان شاهدا على دمارممنهج تخلفه الصراعات المسلحة، حيث حولت قوات الدعم السريع مرافق طبية حيوية إلى ثكنات عسكرية، كـمستشفى شرق النيل ومركز قطر لغسيل الكلى، ما أدى إلى تدمير 20 ماكينة متخصصة في غسيل الكلى، وحرمان آلاف المرضى من خدمات كانت تنقذ حياتهم. ولم يقتصر الأمر على السلب والنهب، بل شمل تحطيم البنى التحتية للمستشفيات، وتحويل أقسام الطوارئ إلى مقرات لوجستية، مما أفقد البلاد قدرة حيوية على مواجهة الكوارث الإنسانية.
وفي ظل انهيار أنظمة الصرف الصحي وتلوث مصادر المياه، تفاقمت الأزمات الصحية لتنشأ بؤر لانتشار أوبئةكـالكوليرا والملاريا وحمى الضنك، خاصة في مناطق مثل شرق النيل، حيث تعاني السلطات من صعوبات بالغةفي جمع الجثث المتحللة من بين أنقاض المعارك، مما يهدد بتفشي الأوبئة. وتشير تقارير محلية إلى أن تراكمالنفايات الطبية والمخلفات البشرية حول أحياء كاملة إلى أماكن غير صالحة للعيش، مع ارتفاع حاد في معدلات الوفيات بين الأطفال وكبار السن.
أمام هذا الوضع الكارثي، أطلق مسؤولون سودانيون نداءات عاجلة لإعادة تأهيل المرافق الصحية المدمرة، إلا أنهم يواجهون عقبات جسيمة تتمثل في شحالموارد المالية ونقص الدعم الدولي، فضلا عن استمرار الأعمال العدائية التي تعوق جهود الإصلاح.
ورغم المحاولات الأولية لاستعادة بعض المستشفيات، مثل بدء حملات تعقيم في شرق النيل، تظل الحاجة ملحة إلى تقديم مساعدات دولية عاجلة لإنقاذ القطاع الصحي من الانهيار التام، وحماية المدنيين من تداعيات أصبحت تهدد وجودهم ذاته.
تراجع التمويل
شكل قرار إلإدارة الأمريكية بإلغاء المساعدات الخارجية ضربة قاسمة لأبناء السودان الذين يعانون من ويلات الحرب، وهم في أمس الحاجة لتلك المساعدات، إذ خفضت 83% من برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي كانت تعد شريان حياة لملايين السودانيين، ويثير هذا القرار مخاوف من تعطيل برامج حيوية تعالج سوء التغذية وتوفرالرعاية الطبية الطارئة، في وقت يحتاج فيه أكثر من 30 مليون سوداني – نصفهم أطفال – إلى مساعدات عاجلة.
من جهتها، حذرت منظمة اليونيسف من أن تقليص التمويل سيعطل إيصال المساعدات إلى 16 مليون طفل، بينهم 1.3 مليون يعيشون في مناطق مجاعة، و3 ملايين معرضون لأمراض قاتلة مثل الكوليرا والملاريا. وأكدت أن استمرار تقليص المساعدات يفاقم من “دوامة المعاناة” التي تهدد بضياع جيل كامل بسبب الجوع والعنف وانعدام الرعاية الصحية.
واقترح الأمين العام لمنظمة أطباء بلا حدود اعتماد “ميثاق إنساني” مدعوم بآليات مساءلة مستقلة، لمراقبة التزام الأطراف بتسهيل وصول المساعدات، ومعاقبة من يعرقلها.
ويركز المقترح على إنشاء نظام دولي لرصد الانتهاكات، بدلًا من التصريحات الفضفاضة التي تفتقر إلى آلية تنفيذ، مما يعيد الأمل بإنقاذ حياة الملايين عبر ضمان تدفق المساعدات دون عوائق سياسية أو عسكرية.
المجاعة : السيناريو الأسوأ
حذرت المنظمات الدولية من وقوع مجاعة في خمس مناطق بشمال دارفور وجنوب كردفان، فيما ترشح 17 منطقة أخرى لدخول مآساة المجاعة، حيث تكشف بيانات هذه المنظمات الدولية عن انهيار شبه كامل للنظام الغذائيفي تلك المناطق، وسط تقاعس دولي عن تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، الذين يعتمدون بشكل كلي على المساعدات في بقائهم على قيد الحياة.
وتظهر الأرقام الصادمة حجم المأساة: فـ1.3 مليون طفل دون الخامسة يعيشون حاليا في بؤر المجاعة المعلنة، بينما يعاني 3 ملايين طفل من سوء التغذية الحاد، الذي يهدد حياتهم بالإعاقات الدائمة أو الموت البطيء بسبب نقص المناعة وانتشار الأوبئة.
ولا تقتصر الكارثة على النقص الغذائي، بل تمتد لتفكيك البنى الاجتماعية، حيث تجبر قوات التمرد الأسر على بيع ممتلكاتهم وتزويج بناتهم القاصرات لأفراد المليشيا مقابل الطعام، أو إجبارهم على تجنيد أحد أفراد الأسرة مقابل بقاء البقية على قيد الحياة.
وهذا الوضع، الذي تصنفه الأمم المتحدة كواحد من أسوأ أزمات الجوع منذ عقود، يتطلب أولًا وقف التدخل الدولي في الأزمة السودانية، وثانيًا تقديم المساعدات الإنسانية بشكل عاجل دون ربطها بتحقيق مصالح سياسية للداعمين، ثالثًا التجريم الصريح لأفعال المليشيا ومحاسبتها دوليًا وجنائيًا على تلك الأفعال.
مشاهد من المأساة
نقلت وبشكل منتظم، وسائل الإعلام المختلفة تلك المشاهد المأساوية التي يظهر فيها الآلاف من أبناء الشعب السوداني وخاصة النساء والأطفال وهم يهرولون من قراهم على الحدود مع تشاد تحت زخات البنادق والمدافع التي تطلقها مليشيا الدعم، وما بين أملًا في النجاة وتوسل لأفراد المليشيا استقبلت رمال الحدود السودانية أنهارًا من الدموع والدماء لتعكس هذا المشهد الجنوني من رغبة جزء من أبناء الوطن في القتل والذبح والإفناء بلا رحمة، خاصة في مواجهة المدنيين العزل.
كان صوت النساء النائحات على أزواجهن الذين ذبحوا أمامهم، أو أطفالهم الذين ذبحوا على يد المليشا، أو حتى هذا المتاع القليل الذي نهبته أفراد المليشا، فكل هذه الصور التي تكررت في مئات القرى، ومع عشرات الآلاف من أبناء دارفور كان يعكس وحشية هذه الحرب، وصدمة وذهول المراقبين الذين لم يتوقعوا يومًا أن جزء كان ينتمي للجيش السوداني ويقوم بحماية حدوده هو اليوم الذي يرتكب كل تلك الجرائم ضد الإنسانية، والمخالفة لكل القوانين الدولية، ليس لأن المدنيين شاركوا في قتالهم، ولكن لأن المدنيين فقط ينتمون إلى عرقيات أخرى، إنها مآساة العنصرية والجهل والقتل بالعمالة التي اصطبغت بلونها جرائم الحرب الدائرة في السودان الآن.
ومن دارفور إلى الخرطوم، وفيما يشبه أفلام الخيال، قامت المليشيا باختطاف الفتيات بعد ذبح أسرهن، واغتصابهن ثم بيعهن في أسواق (الجلابة) باعتبارهن عبيدًا وسبايا حروب، إنها قمة المآساة الإنسانية التي تعيد أفعال البشر إلى المستوى الوحشي ما قبل الحضارة.
وفي كردفان دخلت المليشيا البيوت للقبض على الأطفال وتجنيدهم قصرًا، وبدلا من الذهاب إلى المدارس وممارسة الطفولة لعبًا وتعلمًا، تم اختطاف الأطفال للقتال، وقتل المئات من الأسر التي ترفض تسليم أطفالها للقتال مع قوات التمرد، والتي تقوم بربطهم بسلاسل داخل العربات المسلحة حتى لا يهربوا من الميدان.
وكل هذه المشاهد لم توقظ ضمير العالم كي ينقذ الشعب السوداني ويقف ضد هذه الجرائم العلنية، والتي نقلتها في معظم الأحيان هواتف أفراد المليشيا أنفسهم ولم تاتي من الطرق الآخر في الجيش السوداني.
ويبقى أن قرار إنهاء الأزمة في السودان هو الأسهل في الصراعات الإقليمية لأن الضغط على الأطراف الداعمة ومنع تقديم الأسلحة للمليشيا يسهم بشكل فوري في إيقاف هذه المآساة الإنسانية، ويجمع المراقبون على أن إنهاء الأزمة يتمثل في:
1. فرض عقوبات دولية صارمة على الدول والجهات الداعمة لـقوات الدعم السريع، عبر حظر توريد الأسلحة وتجميد أصول القادة المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان، ويجب تفعيل آليات أممية لمحاسبة الجهات الخارجية التي تخالف اتفاقيات حظر نقل الأسلحة إلى مناطق النزاع.
2. يجب توجيه تمويل دولي مستدام لبرامج الرعاية الطبية والنفسية للفارين من ويلات الحرب خاصة النساء والأطفال، وضرورة دعم منظمات المجتمع المدني التي تقوم بتوثيق هذه الانتهاكات لملاحقة المجرمين أمام المحاكم الدولية.
3. إعادة إعمار السودان بعد تدمير مدنه الرئيسية بشكل شبه كامل مع استعجال إعادة بناء وتأهيل المنشآت الطبية والخدمية باعتبارها المقومات الأساسية لبقاء الناس على قيد الحياة، عبر تعزيز التعاون بين الحكومة السودانية والمانحين الدوليين لتمويل مشاريع إعادة الإعمار، ويشمل ذلك إصلاح شبكات المياهالملوثة، وإعادة تأسيس المستشفيات، وتوفير معدات طبية حديثة لمواجهة الأوبئة.
4. يجب على المجتمع الدولي الضغط على قوات الدعم السريع لفتح ممرات آمنة لمواد الإغاثة، مما يسمح بتدفق المساعدات، ووصولها إلى الجائعين والمحتاجين، وخاصة النازحين في مخيمات اللجوء.