السودان: قلب الجغرافيا الاستراتيجية الغائب عن الرؤية الأمريكية!؟

مقدمة
يُمثّل السودان دولة محورية في منظومة الأمن الإقليمي للقرن الأفريقي والبحر الأحمر، عمق أفريقيا الوسطى والساحل والصحراء . فموقعه المطل على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، ومساحته الشاسعة، وارتباطه بتقاطعات أمنية مع ليبيا وتشاد، جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا، إضافة إلى عمقه السياسي والاقتصادي داخل أفريقيا والعالم العربي، يجعله نقطة ارتكاز لا يمكن لأي قوة كبرى تجاهلها.
ورغم كل ذلك، بقي السودان الحلقة الأضعف في الاستراتيجية الأمريكية، بل يمكن القول إنه أكبر فجوة استراتيجية في مقاربة واشنطن للمنطقة.
ظل غائبًا او مغيباً لأنه:لا يقع ضمن نطاق التهديدات الحيوية، ولا يمتلك لوبيًا ضاغطًا، وتقع ساحته ضمن صراع إقليمي معقّد تفضّل واشنطن إدارته عبر وكلاء وشركاء بدلاً من الانخراط المباشر. كما أن الحرب والانقسام الداخلي جعلت الملف السوداني يبدو “ثانويًا” في ظل اشتعال الجبهات العالمية الكبرى.
السياسة الخارجية الأميركية تُدار وفق خرائط التهديدات والمصالح الحيوية. وبالمقارنة مع:
• صعود الصين،
• التنافس مع روسيا،
• أمن أوروبا،
• الملف الإيراني،
• أمن إسرائيل،
• وموارد الخليج والطاقة،
. انتخابات الكونغرس القادمة،
ليجد السودان نفسه خارج دائرة “الأمن القومي المباشر” لواشنطن، فلا يشكّل تهديدًا عابرًا للحدود، ولا يوفر مكسبًا استراتيجيا يمكن البناء عليه سريعًا، ما يدفعه إلى أسفل سلم الاهتمام والسعي لايجاد مقاربة لمصالحة امام سيل التحديات التي تواجهه.
أولاً: السودان في المنظور الاستراتيجي الأمريكي قبل الحرب
كانت الولايات المتحدة ترى السودان من ثلاث زوايا رئيسية:
1.بوابة أمن البحر الأحمر
تركز واشنطن على:
• أمن الساحل السوداني الممتد بطول أكثر من 800 كلم.
• الحد من النفوذ الروسي وخطط إنشاء القاعدة البحرية في “فلامنغو” أو بورتسودان.
• مراقبة النفوذ الإماراتي والمصري المتصاعد في ميناء بورتسودان وسلسلة الموانئ المقترحة.
. هندسة السودان ما بعد الحرب لصالح حلفاء امريكا.
لكن هذه الرؤية ظلت جزئية ولم تُدمج في عقيدة إقليمية متماسكة.
إ1.ادارة الانتقال السياسي بعد 2019
دعمت الولايات المتحدة الحكومة الانتقالية كجزء من نهج:
• تثبيت الإصلاحات السياسية،
• دمج السودان في الاقتصاد العالمي،
• الحد من النفوذ الصيني والروسي،
• منع الانهيار الداخلي والتفكيك.
لكن واشنطن لم تكن تمتلك خطة لحماية الانتقال، ولا رؤية لمعالجة هشاشة المؤسسات، واوقفت الدعم والمعونات .
3.مقاربة مكافحة الإرهاب
بعد رفع السودان من قائمة الإرهاب، خفت الاهتمام الأمريكي، وأصبح السودان أقل أولوية مقارنة بالصومال أو غرب أفريقيا.
ثانياً: السودان بعد اندلاع الحرب – الارتباك الأمريكي
أظهرت الحرب الحالية خللاً بنيوياً في الاستراتيجية الأمريكية، تمثّل في:
1.غياب موقف واضح من الأطراف
تعاطت معه كأزمة إنسانية فقط وقفت واشنطن:
• ضد التمرد على الدولة نظرياً،
• لكنها مارست ضغطاً مزدوجاً على الجيش ومساواة كاملة له مع الجيش،
• بينما تغاضت عن الدعم الخارجي الكبير للمليشيا والإسناد بالسلاح والمرتزقة.
هذا الغموض جعل واشنطن تفقد ثقة كثير من الفاعلين السودانيين.
2.الاعتماد على وسطاء خليجيين (الرياض – أبوظبي)
فوضت الولايات المتحدة ملف السودان للرباعية (السعودية، الإمارات، بريطانيا، أمريكا).على قلة القدرات والمعرفة والانحياز الإماراتي البين للتمرد. لكن هذا الترتيب أوقع واشنطن في فخ تأثير الإمارات المصالحية في الحرب.
ومع أن واشنطن تنتقد دور الإمارات في اليمن والقرن الأفريقي والصومال، إلا أن رد فعلها تجاه السودان كان أضعف من المتوقع.لكن أتت صحوتها فقط بالأمس عند قامت بإصدار عقوبات على المليشيا على جرائمها البشعة، اتساقا مع المزاج الدولي وسيل الادانات للانتهاكات الممنهجة
3.غياب رؤية متماسكة لليوم التالي
لا يوجد تصور أمريكي واضح حول:
• شكل الدولة السودانية بعد الحرب،
• كيفية إعادة بناء المؤسسات،
• أو مستقبل المليشيا.
• أو طبيعة التحالفات المدنية،
• أو كيفية دمج السودان في أمن البحر الأحمر.
النتيجة: سياسة أمريكية “إدارة أزمة” لا “حل مستدام للأزمة”.
ثالثاً: تأثير القوى الإقليمية على حسابات واشنطن
1.الإمارات
تُعد اللاعب الأكثر تأثيراً في مسار الحرب.
بالنفوذ والمال والانخراط المباشر، وترى واشنطن الآن أن سياسات أبوظبي:
• تغذي الصراع وترفده بكل الوسائل،
• تربك جهود الاستقرار، على حرب بالوكالة تهدد امن الاقليم
• توسع النفوذ العسكري الإماراتي في الحزام البحري الساحلي وهندسة أفريقيا .
المفارقة:
واشنطن تنتقد بشكل غير مباشر، لكنها لم تتخذ إجراءات ضغط حقيقية وازنة لايقاف الفوضى.
2.السعودية
تمثل الرياض قوة موازنة، وقد حققت تقدماً نوعياً في مفاوضات جدة، لكنه فشل عند التطبيق.وتراهن واشنطن على السعودية لضبط الإيقاع الإقليمي وإعادة السودان إلى مسار الدولة، وهي قادة بإسناد منتقى من الاقليم.
3.مصر
تقيم الولايات المتحدة علاقة معقدة مع القاهرة حول السودان، تتراوح بين:
• تفهم دعمها وتعاطفها مع الجيش،
• والقلق من تضخم نفوذها،
• وإدراك أهمية الأمن القومي المصري. وطبيعة الشراكة المتلازمة مع السودان
4.روسيا
القضية الأبرز:
خطر إقامة قاعدة بحرية روسية على الساحل السوداني، والتي تراها واشنطن “خطاً أحمر” غير معلن.ولكنها بالمقابل لا توفر بديلا للسودان.
رابعاً: نقاط الضعف الأمريكية في معالجة الملف السودان
1.قراءة خاطئة لطبيعة الصراع
تعاملت واشنطن مع الحرب كما لو أنها:
. صراع على السلطة بين طرفين،
وليس
• تمرداً مدعوماً خارجياً ضد الدولة السودانية او حرب بالوكالة من خارج الحدود.
2.الفشل في تقدير خطورة البعد الإقليمي
لم تدرك واشنطن مبكراً:
• حجم الدعم العسكري الخارجي،
• خطط السيطرة على الموانئ،
• ارتباط الحرب بممرات التجارة والساحل وسلاسل الغذاء والوقود والسلع.
3.غياب أدوات التأثير
تعاني واشنطن من:
• ضعف الأدوات الاقتصادية،
• ضعف النفوذ المباشر على القوى العسكرية،
• محدودية الوجود الاستخباراتي،
• اعتماد مفرط على الوسطاء خارج الاقليم.
4.تناقض الرسائل الرسمية
ترسل الولايات المتحدة رسائل مزدوجة:
• تدعو لوقف الحرب،
• وتضغط على الجيش،
• وتغض الطرف عن الدعم الخارجي.
ما جعل مقاربتها غير مقنعة للسودانيين وغير فاعلة إقليمياً حتى بوجود الرباعية ومبعوثها.
خامساً: التحولات المحتملة في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان
مع تغير موازين القوى في المنطقة، يُتوقع أن تشهد المقاربة الأمريكية تحولات عميقة:
1.إعادة تقييم دور الإمارات
ملف السودان قد يكون نقطة التحول الرئيسية في علاقة واشنطن بأبوظبي، خاصة مع:
• تزايد الانتقادات في الكونغرس،
• الضغط الإعلامي والدبلوماسي،
• فشل الرهان على “التحالفات المرنة”.
. تاسيس وصمود بلا سند شعبي
2.تعزيز دور السعودية في حل الأزمة
ستمنح واشنطن الرياض مساحة أوسع لقيادة جهود السلام، باعتبارها فاعلاً أكثر توازناً، عبر المبادرة المشتركة مع السعي لايجاد شبكة امان مساندة لاستكمال الحل.
3.دمج السودان في استراتيجية البحر الأحمر
قد تدفع الحرب واشنطن إلى دمج السودان في:
• الأمن البحري،
• التحالفات البحرية،
• مشاريع البنية التحتية عبر الشركاء.
. رؤيتها بوحدة السودان ورفض التقسيم
4.منع روسيا من الوصول إلى الموانئ السودانية
سيكون هذا أولوية قصوى، وقد تستخدم واشنطن:
• العقوبات، والحوافز
• الضغوط الدبلوماسية،
• الشراكات العسكرية،
لمنع هذا السيناريو.
5.دعم إعادة بناء الدولة السودانية
إذا اتجهت الحرب نحو نهايات واضحة، ستعمل الولايات المتحدة على:
• إعادة هيكلة القطاع الأمني،
• دعم الحوكمة المدنية،
• تعزيز المساعدات الإنسانية،
• منع تفكك الدولة والجيش.
سادساً: تحليل موسع
السودان ليس مجرد ساحة صراع داخلي، بل هو مركز ثقل في معادلة البحر الأحمر والقرن الأفريقي والشرق الأوسط . لكن الولايات المتحدة لم تتعامل معه باعتباره كذلك، ما سمح لقوى إقليمية بتحديد مسار الأحداث.
ومع تزايد التهديدات:
• النفوذ الروسي، والمحور الصيني الإيراني
• التدخلات الإماراتية،
• أمن البحر الأحمر،
• خطر انهيار دولة كبيرة،
بدأت واشنطن تستشعر خطورة ترك الملف السوداني دون رؤية واضحة.
ويتوقف مستقبل الدور الأمريكي في السودان على قدرتها على:
• صياغة عقيدة إقليمية متماسكة،
• وبناء شراكات متوازنة،
• والانتقال من إدارة الأزمة إلى الحل،
• ودعم السودان كدولةً لا ساحة نفوذ.
بل كانت واشنطن ترى أن الانخراط القوي في الملف السوداني يضعها وسط صراع إقليمي معقّد بين:
• المحور الإماراتي–الإثيوبي،
• المصالح المصرية،
• الدور السعودي،
• التواجد الروسي في الساحل وليبيا،
• الحضور التركي–القطري. وظلت واشنطن ترى أن الملفات الساخنة في المنطقة (اليمن، الصومال، إثيوبيا، البحر الأحمر) يمكن إدارتها دون الحاجة إلى السودان، خاصة مع وجود شركاء إقليميين نافذين (السعودية، الإمارات، مصر) يمكنهم “ضبط” المشهد بدل الانخراط الأميركي المباشر.وجهلت عدم وجود لوبي ضاغط لصالح السودان على خلاف دول الجوار، لا توجد في واشنطن:
• مجموعات مصالح،
• شركات عملاقة،
• أو جاليات منظّمة
تقاتل في الكونغرس والبيت الأبيض لرفع شأن السودان في سلّم الأولويات. وغياب هذا اللوبي يؤثر مباشرة على حجم الاهتمام، خاصة في ظل المنافسة المحتدمة على موارد القرار الأميركي والمصالح المتقاطعة في المنطقة ما بين النفوذ الاقليمي وكبار اللاعبين.ولهذا فضّلت إدارة بايدن الدبلوماسية منخفضة الكلفة: بيانات، عقوبات رمزية، ضغوط سياسية، دون استراتيجية متكاملة.
وبرغم التحديات الي ستواجه الرؤية الأميريكية، سيظل المزاج الدولي المتحوّل لمقاربة عن السودان ، ربما بعودة النزعة الواقعية في مراكز القرار العالمي. ومع تفرّد الرئيس دونالد ترامب بالإمساك بملف السودان بنفسه، تتجه بوصلة السياسة الأميركية نحو إعادة صياغة نهج أكثر مباشرة وتأثيرًا في القرن الأفريقي. ومع الشراكة المزمعة بين واشنطن والرياض لاستكمال مبادرة الحل، يصبح السودان ـ لأول مرة منذ عقود ـ مرشحًا ليكون الملف الأبرز في أفريقيا داخل الأجندة الأميركية الجديدة.
ذلك لأن السودان يمثل اليوم نقطة التقاء بين الحاجة الأميركية لاستقرار الإقليم، وإرادة القوى السودانية لصنع تسوية وطنية متماسكة، سيما الدور السعودي الراغب في صياغة نظام إقليمي أكثر توازنًا وفاعلية، بموجب الحراك النشط الذي يجري بين البلدين حاليا . وهكذا تتشكّل فرصة نادرة لبناء حلول مستدامة تعالج جذور الحرب، وتعيد للدولة السودانية تماسكها ووظيفتها، وتفتح الطريق أمام إعادة إدماجها كدولة طبيعية في كتاب السلام الدولي الذي يسعى ترامب إلى قيادته عالميًا ، ويتباهى بإنجاز ٨ اتفاقيات سلام حتى الان .
وباختصار:
السودان يقف على أعتاب لحظة مفصلية قد تعيده من هامش الاهتمام الدولي والغياب إلى قلب الاستراتيجية الأميركية، بوصفه مفتاح استقرار الإقليم، ونموذجًا لإحياء مشروع السلام في أفريقيا. يلزمه معها أن يحسن الطريق الي كتابة شروط رؤيته ووجهته مهما كانت الضغوط والكلفة التي رتبتها الحرب .
——————
١٥ ديسمبر ٢٠٢٥ م.



