السودان عند مفترق طرق : اتفاق جوبا بين مأزق الإصلاح وتعطيل تشكيل الحكومة

منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، دخل السودان في نفقٍ من الجمود المؤسسي والسياسي لا يزال ممتدًا حتى الآن، دون أن تُحرز الدولة تقدمًا حقيقيًا نحو إعادة البناء أو استعادة الاستقرار السياسي. وفي صدارة أسباب هذا الجمود، يتجدد الجدل حول اتفاق جوبا للسلام الموقع في 3 أكتوبر 2020، والذي كان يُنظر إليه يومًا كمخرج سلمي، ليصبح لاحقًا – وفق خبراء ومراقبين – أحد أبرز العوائق في مسار الإصلاح.
في مقابلة أُجريت بتاريخ 28 يونيو 2025 عبر قناة الجزيرة، قدّم الناطق الرسمي باسم حركة العدل والمساواة، الدكتور محمد زكريا، رؤية الحركة فيما يتعلق بملف الإصلاح السياسي، متسائلًا: كيف تُمنح لرئيس الوزراء كامل إدريس صلاحية حل الحكومة دون استشارة أو تفويض من لجنة سياسية أو استشارية؟ وأضاف أن التفاوض الجاري لا يدور حول “المناصب”، بل حول “ضمان المشاركة الفعلية” للأطراف الموقعة خلال الفترة الانتقالية. هذه التصريحات أثارت مجددًا قضية النصوص الحاكمة لاتفاق جوبا، وعلى رأسها المادتان (11) و(16) اللتان تُغلقان فعليًا باب المراجعة أو إدماج قوى سياسية جديدة، وتُبقيان تركيبة السلطة رهينة لتوازنات ما قبل الحرب.
تفاقمت الإشكالات بتبدل مواقف بعض الأطراف الموقعة على الاتفاق، إذ انضمت ثلاث من الحركات، هي: تجمع قوى التحرير، وجيش تحرير السودان (المجلس)، والجبهة الثالثة “تمازج”، إلى تحالفات ميدانية وسياسية مع مليشيا الدعم السريع المتمردة، دون أن يُحرّك الاتفاق ساكنًا إزاء غياب آلية قانونية صريحة للفصل أو الإنهاء أو إعادة الصياغة.
بل إن المادة (13) من الاتفاق، التي تحدد تسلسلًا مؤسسيًا لحل الخلافات – من المشاورات الودية إلى اللجان المختصة ثم الآليات الرقابية – لا تُفعَّل حاليًا، مع استمرار الأطراف في طرح الخلافات عبر الإعلام والمنابر العامة، ما زاد من هشاشة الثقة السياسية والتشويش على الرأي العام.
وفي ظل هذا الانسداد، تولّى الدكتور كامل إدريس رئاسة الوزراء في 10 يونيو 2025، وسط موجة من الترقب الشعبي الذي رأى في تكليفه فرصة لانطلاقة جديدة. غير أن خطوات تشكيل حكومته وُوجهت بعراقيل مبكرة تمثلت في تحفظات صريحة من بعض القوى السياسية على إعادة توزيع السلطة وتحديث آليات المشاركة، ما كشف أن الأطراف المستفيدة من هيكل اتفاق جوبا لا تزال ترفض أي مراجعة قد تمس مكتسباتها.
ورغم التحديات السياسية والاقتصادية، تسجل البلاد في بعض الجوانب إشارات إيجابية لروح تلاحم وطني، بدءًا من مبادرات مجتمعية، مرورًا بأدوار مهنية لبعض المؤسسات التي ما زالت تحافظ على انضباطها ومسؤوليتها. لكن ذلك لا يغني عن ضرورة إعادة الاعتبار للإصلاح السياسي والمؤسسي كأولوية وطنية عاجلة، عبر إجراءات فاعلة تبدأ من الداخل.
ويُعد ترسيخ الثقة بين المكونات القائمة على قمة هرم الدولة سواء القوى المدنية، أو القيادة العسكرية، أو الأطراف الموقعة على اتفاق السلام – المدخل الأساسي لأي تحول سياسي حقيقي. فالثقة ليست مجرد مناخ، بل شرط لإطلاق حوار منتج وإعادة ترتيب الفاعلين على أساس مشروع وطني جامع، لا على أساس المحاصصات المسنودة بالاتفاقيات.
ويمثل المضي قدمًا نحو الإصلاح الوطني ضرورة قصوى، ويشمل ذلك:
- هيكلة مؤسسات الدولة على أسس مهنية وتمثيل عادل
- مراجعة اتفاق جوبا وتعديل البنود التي تعيق الإصلاح أو المشاركة
- إصلاح الأجهزة الأمنية عبر دمج تدريجي ومهني لمختلف المكونات
- محاربة الفساد وتجفيف مصادر اقتصاد الحرب والمصالح الخاصة
- تعزيز الخدمة العامة وإصلاح الجهاز الإداري للدولة
- إنفاذ عدالة انتقالية تُكرّس مبدأ المحاسبة وتُعيد ثقة المواطن
ختامًا، فإن الدولة السودانية تحتاج اليوم إلى إرادة سياسية جادة، لا تكتفي بإعادة تدوير الخلافات، بل تُجابه أصل المعضلة. دولة القانون والعدالة لا تُبنى باتفاقات مغلقة، بل بمشروع وطني ينطلق من الداخل، من شراكة تعترف بالأزمة وتؤمن بأن بناء المستقبل يتطلب قرارات جريئة، وثقة تُعاد ترميمها من قمة الهرم إلى قاعدته.
محمد الحاج
2 يوليو 2025م