السودان بين طوكيو وجوهانسبرغ: كيف مهّد نداء غوتيريش ومخرجات G7 الطريق للمبادرة السعودية–الأمريكية؟

في لحظة سياسية تتجاوز حدود الإقليم، دخل ملف الحرب في السودان مرحلة جديدة من الاهتمام الدولي، مع تماهٍ نادر بين مواقف الأمم المتحدة، ومجموعة الدول الصناعية السبع (G7)، والجهود السعودية–الأمريكية التي أعادت الملف إلى طاولة القوى الكبرى. فقد جاء النداء العاجل الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قبل يومين من قمة مجموعة العشرين (G20) في جوهانسبرغ، ليؤكد أن السودان أصبح ملفًا حاضراً لا يمكن تجاهله، كونه ثالث اكبر أزمة كونية بعد الحرب الروسية الاوكرانية والنزاع الاسرائيلي الفلسطيني. وأن المجتمع الدولي يتحرك في اتجاه واحد يهدف إلى وقف الحرب وكبح التدخلات الأجنبية ومشروعاتها والضغط الاحادي، ووقف تدفق السلاح للتمرد واحكام ملف ادانته وتصنيفه من قبيل الحملة الدولية التي انطلقت. والعمل على خلق «شبكة أمان» للمبادرة التي دفعت بها السعودية عبر واشنطن كي تبلغ غاياتها .
1) نداء غوتيريش… رفع السودان إلى جدول أعمال العشرين
أطلق الأمين العام نداءه العاجل لقادة العشرين داعيًا إلى وقف الحرب ووقف تدفق السلاح والمقاتلين إلى السودان، محذّرًا من مخاطر تفكك الدولة وانهيارها، على خلفية الكارثة الإنسانية التي خلفتها والإدانات الدولية الواسعة لانتهاكات المتمردين ضد المدنيين.
هذا التوقيت، بين يدي قمة العشرين في جنوب أفريقيا (22–23 نوفمبر 2025)، ليس مجرد صدفة، بل خطوة محسوبة لرفع الملف إلى أعلى مستوى من مستويات صنع القرار الدولي، وتحويله إلى بند رسمي على طاولة الكبار.
اياً كانت المقاصد التي رمت اليها الخطوة
اليوم، لا يبدو النداء منفصلًا عن التحركات الدبلوماسية الجارية، بل يظهر كجزء من توافق عالمي يتشكّل حول مقاربة سعودية–أمريكية لإنهاء الحرب، بترحيب سوداني مع توفير غطاء أممي يضفي الشرعية على أي مسار للسلام أو لفرض وقف إطلاق النار وفقا للشرعية السودانية وسرديتها، ومحدداتها لا ما ظلت تعكسه الرباعية وتجاهلها الحقائق على الأرض.
2) طوكيو: بيان G7 يمهّد الأرضية السياسية
قمة وزراء خارجية مجموعة الدول الصناعية السبع (G7) في طوكيو قبل أيام قدّمت أول إشارة واضحة إلى أن المزاج الغربي تغيّر جذريًا تجاه الحرب في السودان. البيان الختامي تضمّن:
• إدانة مباشرة لجرائم الدعم السريع، خصوصًا الانتهاكات الموثقة في دارفور والخرطوم والمدن والأرياف الاخري .
• الدعوة لوقف تدفّق السلاح والمقاتلين عبر الحدود.
• التأكيد على وحدة الدولة السودانية ورفض تمزيق مؤسساتها.
• دعم مسار سياسي موحد بقيادة إقليمية — وضمانات، وهي إشارة ضمنية للدور السعودي كمنصة رئيسية.
اضافة الي ما صدر عن مجلس حقوق الانسان بجنيف في ذات الخصوص ، وتوجيه الاتحاد الأوربي عقوبة مباشرة لقائد ثاني التمرد. هذه النقاط تتطابق بشكل شبه حرفي مع ما ذكره غوتيريش في ندائه.
والأهم من ذلك: أنها تعيد الاعتبار للسردية الرسمية السودانية وتضع مليشيا الدعم السريع في خانة «المليشيا المعرقلة» ذات الانتهاكات الكبرى، ستحملها مع الايام لتصنيفها لجماعة ارهابية لا محالة وتنقلها لساحة القضاء.
3) من الرياض إلى واشنطن: توافق سعودي–أمريكي يتبلور
لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالرئيس ترامب في واشنطن كان نقطة تحول وفرصة نادرة يجب اغتنامها .
المعلومات المتاحة تشير إلى طلب سعودي واضح بدور أمريكي مباشر لوقف الحرب، ورغبة أمريكية متزايدة في احتواء الأزمة قبل أن تتحول إلى تهديد لأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي.يعكس ان ما فشلت الإمارات في تحقيقه بالقوة الغاشمة والنفوذ السياسي والمال، تستطيع الرياض فعله بالجوار والإخاء والسياسة التي تضع في اعتبارها تاريخ الدولة السودانية وسيادتها وكرامة شعبها.
أصبحنا أمام مبادرة سعودية–أمريكية قيد التشكل، تسعى إلى:
• إيقاف تدفّق السلاح والمرتزقة
• إعادة تثبيت المشروعية والسردية
• وضع إطار سياسي جديد يحظى بإجماع دولي يقوم على سيادة السودان ومصالحه لا مكافأة التمرد والفوضى.
لكن هذه المبادرة تحتاج إلى «شبكة أمان» دولية تمنع سقوطها — وهنا يأتي دور مصر وقطر وتركيا وفضاءات انتماءات السودان، وصداقاته ويأتي دور الأمم المتحدة وG7 والعشرين.
4) شبكة الأمان الدولية: من التحقيق الأممي إلى العقوبات الأوروبية
التحركات الأخرى التي تزامنت مع نداء غوتيريش تضع الدعم السريع تحت ضغط دولي متصاعد:
• عقوبات الاتحاد الأوروبي على القائد الثاني للدعم السريع
• احتمالات متزايدة لتصنيف دولي للدعم السريع كمنظمة إرهابية
• عمل بعثة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان
• تصاعد السخط الدولي تجاه الجرائم الجماعية في دارفور
. وتكشف الحقائق عن الرعاة والداعمين للتمرد وفق تقارير موثقة.
هذه التطورات تجعل أي تواصل دولي مع الدعم السريع مكلفًا سياسيًا، وترفع أسهم الدولة السودانية في المحافل الدولية، وتعزز قدرة السعودية والولايات المتحدة على دفع الأطراف باتجاه الحل بما يكفل امن السودان ووحدته واستقراره لاجل استقرار المنطقة والاقليم.
5) قبل قمة العشرين: بناء توافق دولي متدرج
ما بين طوكيو (G7) ونيويورك (الأمم المتحدة) والرياض–واشنطن (المبادرة الإقليمية)، يتبلور الآن إجماع دولي يُهيّئ الأرضية لقمة العشرين في جوهانسبرغ. لابد للسودان من تعزيز حراكه الدبلوماسي فيما أتيح من مساحة ، تبرز مشاغله وتضع هذا التحرك على خطى الانجاز لا الابتزاز.
من المتوقع أن يستخدم غوتيريش هذا الإجماع ليضغط باتجاه:
• إدراج السودان في البيان الختامي لقمة G20
• الاتفاق على وقف تدفق السلاح والمقاتلين
• دعم مبادرة سياسية بقيادة السعودية والولايات المتحدة
• توفير تمويل إنساني عاجل لسد العجز
• دعم آلية مراقبة أو لجنة اتصال دولية
إذا تحقق ذلك، فستكون قمة العشرين محطة مفصلية في مسار الحرب، وسبل الحل المستدام.
6) عودة السردية الرسمية للسودان
الملاحظ الآن هو عودة واضحة لـ«السردية الرسمية السودانية» إلى الساحة الدولية.
فالإدانة العالمية لجرائم مليشيا الدعم السريع، واعتراف القوى الكبرى بخطورة امكانية تفكك الدولة، وإعادة التصنيف السياسي للتمرد، كل ذلك يعيد الشرعية الدبلوماسية لموقف الحكومة السودانية، ويعلي من حراكها وجهودها، ويغبر تدخلات الرباعية.
وهذا التحول يمنح الخرطوم فرصة تاريخية لإعادة صياغة موقعها في المعادلة الدولية بعد سنوات من التردد الغربي والضبابية، وعدم الإنصاف بحجب الإرادة الدولية عنه وتجاهله انسانيا وسياسيا بصفة انتقائية.
خاتمة: لحظة دولية نادرة — هل يُحسن السودان التقاطها؟
للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، تتحرك الأمم المتحدة وG7 والولايات المتحدة والسعودية في اتجاه واحد، بعيدا عن خلفيات مقررات جده او مطامع الإمارات عبر الرباعية.
نداء غوتيريش لم يكن مجرد صرخة إنسانية، بل خطوة سياسية مدروسة لتعزيز مبادرة سعودية–أمريكية آخذة في التشكل بثقل مركزي قوي، وتحويلها إلى مشروع دولي متكامل تحرسه قمة العشرين.
هذه هي اللحظة التي قد تُغيّر مصير الحرب — بشرط أن تُحسن السعودية وواشنطن إدارة الملف، وأن تمتلك الدولة السودانية القدرة على استثمار التحول الدولي ومتغيراته لصالح السلام وإعادة بناء الدولة، ووضع حد للكارثة والمعاناة الإنسانية. ورسم خارطة السلام والامان والاستقرار واعادة الإعمار والتاهيل لما دمرته الحرب بكلفتها الإنسانية والمادية المتمددة .
⸻
٢٣ نوفمبر ٢٠٢٥م



