السودان بين ضرورات النصر وأدوات السياسة: قراءة في انفتاح الحوار مع واشنطن!؟

تستعيد الساحة الدولية هذه الأيام حيويتها عبر سباق دبلوماسي محموم تقوده الولايات المتحدة على أكثر من جبهة؛ من جهودها المستمرة لتثبيت خطوط السلام بين موسكو وكييف، إلى اندفاعها لاحتواء حرائق الشرق الأوسط بين إسرائيل وغزة، وصولًا إلى الملف السوداني الذي بات يُصنّف كثالث أكبر نزاعٍ دولي نشط من حيث التأثير الإنساني الامني والجيوسياسي.
في خضمّ هذا المشهد، تبرز عودة الحوار بين الخرطوم وواشنطن كإشارة لالتفاتٍ أمريكي متجدد نحو السودان، ليس فقط من زاوية المأساة الإنسانية، بل إدراكًا لأهمية السودان كمفتاحٍ لتوازن القرن الإفريقي، وأمن الاقليم ولضبط حركة النفوذ المتصاعد لقوى إقليمية ودولية في منطقة شديدة الحساسية، أقعدتها الارادات والمصالح المتعارضة .
هذا الانفتاح، رغم ما يحيط به من حذرٍ وغيابٍ للثقة، يشكل فرصة تاريخيّة واقعية للسودان لإعادة تعريف علاقاته الخارجية وتفعيل أدواته الدبلوماسية والسياسية كجزءٍ من معادلة النصر، لا كبديلٍ عن الميدان العسكري. فالمعارك الحاسمة لا تُربح بالسلاح وحده، وإنما بالقدرة على ترجمة القوة إلى موقع تفاوضي مؤثر يضمن سيادة الدولة ويعيد رسم علاقاتها على نحوٍ متوازنٍ مع العالم، ويعيد بوصلة السياسة ومقارباتها بما يؤمن مصالح البلاد العليا ويعزز الامن والاستقرار ويحفظ سيادة البلاد ويصون ترابها ولحمتها.من وهدة هذه الحرب المدمرة.
العودة إلى الدبلوماسية: من الهامش إلى مركز الفعل
لقد ظل السودان لعقودٍ أحد أهم القوى الإقليمية الفاعلة، ليس بالمساحة ولا بالعدد، بل بموقعه الجيوبوليتيكي الذي جعله قلبًا نابضًا في معادلة الأمن الإفريقي والعربي. وموارده المتنوعة و حضوره الواعي بمطلوبات السلم والأمن الاقليمي. غير أن انكماش دوره السياسي وتراجع حضوره الدبلوماسي في السنوات الأخيرة لاسباب داخلية وكوارث كونية وتحولات دولية ومطامع خارجية، أفسح المجال لقوى مجاورة ومن الاقليم كي تتمدد في فراغه الطبيعي، بعضها بلا مقومات ولا شرعية استراتيجية، لكنها استفادت من غياب السودان عن ساحته وانكماش دوره خاصة في أمن القارة الأفريقية، ودوره المحوري في الريادة والتموضع.
اليوم، ومع استئناف الاتصالات مع واشنطن، تبدو الفرصة سانحة لاستعادة المبادرة: لا عبر الارتهان لإملاءات خارجية او مشروعات وصاية اجنبية بكل السيناريوهات المتداولة لتفكيكه، بل عبر إحياء مدرسة السياسة السودانية الواقعية المبدئية، تلك التي تجمع بين الاعتزاز بالسيادة والانفتاح على العالم بمصالح متبادلة، وشراكات ذكية تقوم على الندية والمصالح لا على تسجيل النقاط والإضعاف والابتزاز.
بين واشنطن والخرطوم: قراءة في مساحات الالتقاء
رغم الخلفيات المنقصة وحالة الجمود والتباين الواضح في أولويات الطرفين، فإنّ مساحات الالتقاء أكثر مما تبدو عليه في الظاهر.
واشنطن تنظر إلى السودان كجزءٍ من منظومة أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وهي تدرك أن استقراره يعني الحدّ من تمدد الفاعلين غير المنضبطين في الإقليم، والتوترات في المنطقة.
أما الخرطوم، فتسعى إلى كسر عزلتها السياسية، واستعادة حضورها في المجتمع الاقليمي والدولي دون المساس بثوابتها الوطنية، او الركون للضغوط التي استهدفتها بالانقلاب والحرب والعدوان المفتوح ولم تفلح في إنفاذها أهدافها رغم الكلفة المترتبة على الحرب.
من هنا، يمكن تحويل الحوار القائم إلى منصةٍ لتوازن المصالح:
•واشنطن تكسب دورًا استراتيجيًا جديدًا في رقعة السلام التي تقودها وتضيف مشروعا هاما في شرق إفريقيا عبر التعاون مع دولة محورية، لها موارد مهولة وقدرات عسكرية وسياسية، ووعي جمعي له تاريخ ورصيد ينتظر مستقبله وافقه الواعد.
•والسودان يستعيد موقعه في الخارطة الدولية بصفته طرفًا مسؤولًا وقادرًا على الانتصارات واحترام التفاهمات وإنتاج الاستقرار لا تصدير الأزمات.
غياب البوصلة الفكرية… ومخاطر الارتجال السياسي
أحد مظاهر الخلل التي أضعفت قدرة السودان على إدارة ملفاته الخارجية هو غياب المراجعات الفكرية العميقة لمسار السياسة الوطنية.
فالفكر السياسي السوداني لم يجرِ له تحديثٌ منهجي منذ عقود، وباتت القرارات الخارجية تُبنى على ردود الفعل والتقديرات الخاطئة لا على رؤية استراتيجية تأخذ بالمتغيرات ودينامياتها.
لقد غابت البوصلة الوطنية التي تُعيد تعريف علاقة السودان بجيرانه، والتوازن بين ضرورات الأمن ومتطلبات التنمية، وبين المبدأ والسياسة الواقعية، وقيمة الامن والاستقرار.
من هنا، تصبح إعادة بناء الدبلوماسية ليست مهمة تقنية فحسب، بل مشروعًا وطنياً فكريًا وسياديًا، يمتلك السودان رجاله وأدواته وطرائقه. وان التاريخ سيكتب من واقع هذه الانعطافة الواثقة للحوار أن بمقدور بلادنا رغم كل الذي اصابها من دمار وإفقار وفقد ، أنها قادرة على استعادة زمام المبادرة والقفز على كل الجراح والخسائر التي خلفتها هذه الحرب اللعين، واعادة الأوضاع الي افضل مما كانت عليه.ليس حلما شاطحاً، بقدر ما هي ثقة في الله وموارد وقدرات هذه الامة التي جلبت عليها كل هذا الاعتداء والمكر بشتى صنوفه وادواته.
فرص البناء: ما الذي يمكن أن تفعله الخرطوم؟
1. إعادة ترقية وتأهيل الدبلوماسية الوطنية من حيث الكادر، والمضمون، والرسالة، لتكون وزارة الخارجية والتعاون الدولي مركز تفكيرٍ وصنع قرارٍ لا مجرد إدارةٍ إجرائية، وانما بوصلة حادية في ضبط الإيقاع الداخلي وتعظيم انعكاسه خارجيا.
2. بناء سردية وطنية متماسكة تشرح للعالم من نحن وماذا نريد، وتضع الحرب في إطارها الدفاعي لا العدواني، وفق آثارها المهولة وجهود الدولة في جعل البلاد عصية على الانكسار والتفكيك.
3. تفعيل الدبلوماسية الشعبية والناعمة عبر الأكاديميين والخبراء والإعلام والجاليات، لتصحيح الصورة النمطية وإعادة سرد القصة السودانية بلسان أهلها.
4. فتح حوار إقليمي متوازن مع دول الجوار والفاعلين العرب والأفارقة، يعيد السودان إلى دوره كجسرٍ للبناء والتعاضد لا كساحة صراع، او منصة للمخططات الماكرة.
5. تأسيس مراكز تفكير وطنية بحثية تُعنى بصياغة سياسات خارجية مبنية على المعرفة والتقييم والتحليل العلمي، لا على الانفعال السياسي، .
خاتمة: بين المعركة والرؤية
إنّ الانتصار في الحرب لا يُقاس بمدى السيطرة على الأرض وحدها، بل بمدى القدرة على تحويل لحظة الحرب إلى منصة إعادة بناء الدولة والعقل السياسي، وتوحيد الإرادة الوطنية والعقل الجمعي نحو المشروع الوطني الشامل وتعزيز أدواته ومطلوباته لاستكمال النصر الشامل.
الحوار مع واشنطن ليس تنازلًا ولا انحيازًا ولا قبولا بتسوية مجحفة، بل اختبارٌ لنضج الإرادة الوطنية وقدرتها على الإمساك بخيوط التوازن بين الداخل والخارج.حوار تفاعلي يتجاوزها الي حلفائها بصدق يحقق مصالح الكل وبدرء شرهم ويكف مكائدهم ويجسر الهوة بعدل وانصاف.في عالمٍ تتداخل فيه الأزمات وتتشابك فيه الملفات والمصالح من موسكو إلى غزة، يصبح السودان جزءًا من معادلة دولية أكبر لا يمكن تجاهلها.
وإذا أحسن السودان استثمار هذه اللحظة، ووفق في إدراتها بخيارات شعبنا، فقد يكون الحوار مع واشنطن بداية عودة السياسة إلى موقعها الطبيعي: سلاحًا مكمّلًا للنصر العسكري، وجسرًا نحو تثبيت السيادة الوطنية في عالمٍ مضطربٍ يبحث عن توازنٍ جديد.وثقتنا أن المسار الذي ينهض بقوة وعزيمة وطنية واثقة، ومقاربة دبلوماسية نيرة تبنى على مصالح البلاد ومرتكزات سيادتها وعزتها ورصيدها التاريخي النضالي،من شأنه أن يكتب واقعاً مشرفاً، يعلي من رايات النصر العسكري وتخطي البلاد للتحديات الكبيرة بلوغا لغايات البناء والإعمار والتنمية.
⸻
٢٧ اكتوبر ٢٠٢٥ م



