الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

السودان بين خديعة الديمقراطية وجذور الفساد: الطريق إلى الوحدة تحت علمٍ واحد

محمد الحاج

منذ أن نال السودان استقلاله في عام 1956، ظل حلم الوحدة الوطنية تحت علمٍ واحد يتعثر في دروبٍ مليئة بالأشواك، حيث لم تكن العقبات ناتجة عن طبيعة الشعب السوداني أو تنوعه الثقافي، بل كانت نتيجة مباشرة لصناعة ممنهجة للفشل، شارك فيها المستعمر وأعوانه من الداخل، واستمرت لعقود طويلة دون أن تُكشف حقيقتها. لقد تم التستر على السر الحقيقي الذي منع السودان من النهوض، وهو الفساد البنيوي الذي تغلغل في مؤسسات الدولة، وتحوّل إلى منظومة متكاملة تخدم مصالح فئة ضيقة من المنتفعين، بينما يُترك الشعب يتجرع مرارة الانقسام، والحروب، والتهميش.

منذ اللحظة التي بدأ فيها المستعمر البريطاني يستعد للرحيل، لم يكن هدفه ترك السودان دولة مستقلة قوية، بل عمد إلى زرع بذور الانقسام والضعف، عبر صناعة طبقات اجتماعية وسياسية تخدم مصالحه حتى بعد خروجه. فقد أنشأ طبقة من “الأفندية”، وهم مجموعة من المتعلمين الذين تم إعدادهم ليكونوا واجهة مدنية للنظام الاستعماري، يحملون أفكاره ويطبقون سياساته، دون أن يكون لهم ارتباط حقيقي بمصالح الشعب. ثم جاءت الطبقة الثانية، وهي “السادة”، الذين مُنحوا امتيازات اقتصادية واجتماعية ضخمة مقابل الولاء للمستعمر، وتم تمكينهم من السيطرة على مفاصل الدولة بعد الاستقلال. وفي الوقت ذاته، تم تأسيس ما يسمى بالمعارضة، ليس كقوة وطنية حقيقية، بل كأداة تُستخدم لاحقًا لضبط إيقاع الصراع الداخلي، كلما أراد المستعمر أو وكلاؤه إعادة ترتيب المشهد السياسي.

بهذا التكوين الهش، دخل السودان مرحلة ما بعد الاستقلال وهو يحمل في داخله بذور الفوضى. لم تكن هناك رؤية وطنية جامعة، بل صراع بين القوى الطائفية التي صنعت الحراك السياسي السوداني، وتحولت الدولة إلى ساحة تنافس على الموارد والسلطة. وبدلًا من أن تُبنى مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة والعدالة، تم توزيع المناصب والامتيازات وفقًا للولاءات والانتماءات، مما أدى إلى تهميش قطاعات واسعة من الشعب، خاصة في الأقاليم البعيدة عن المركز.

في ستينيات القرن الماضي، بدأت أولى مظاهر الانقسام تأخذ طابعًا دمويًا، مع اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب، والتي استمرت لعقود، وانتهت بانفصال جنوب السودان في عام 2011. هذا الحدث لم يكن مجرد نتيجة لصراع سياسي، بل كان تتويجًا لمسار طويل من الفشل في إدارة التنوع، وغياب العدالة، واستمرار الفساد. لقد تم تصوير المشكلة على أنها خلافات ثقافية أو دينية، بينما كانت في جوهرها نتيجة مباشرة لسياسات الإقصاء والنهب المنظم للثروات.

ثم جاءت مرحلة الديمقراطية، التي رُوّج لها باعتبارها الحل السحري لمشاكل السودان. لكن ما حدث فعليًا هو أن الديمقراطية تحولت إلى شعار يُستخدم لتبرير الصراعات، وإشعال الحروب، وتكريس الانقسام. كل تجربة ديمقراطية في السودان انتهت بانقلاب عسكري، لأن القوى التي تم تمكينها لم تكن تؤمن بالديمقراطية كقيمة، بل استخدمتها كوسيلة للوصول إلى السلطة، ثم الانفراد بها. لقد تم خداع الشعب السوداني مرارًا وتكرارًا، عبر أدوات إعلامية وسياسية، صورت له أن الديمقراطية هي الطريق إلى الحرية، بينما كانت تُستخدم لتكريس الفساد، وتثبيت مصالح فئة محددة.

حرب 15 أبريل كانت نقطة تحول فارقة في تاريخ السودان الحديث. لأول مرة، تذوق أصحاب المصالح الضيقة من نفس الكأس الذي شرب منه الشعب السوداني لعقود. لقد انكشفت الخدعة الكبرى، وسقطت الأقنعة، وظهر أن ما كان يُسمى بالديمقراطية لم يكن سوى أداة لإدارة الصراع، وليس لحله. هذه الحرب كشفت حجم التآمر الداخلي والخارجي على السودان، وأظهرت أن ما يُدار خلف الكواليس أخطر بكثير مما يُقال في العلن. لقد تم استخدام الشعب كوقود لصراعات لا تخدمه، بل تخدم من يريدون استمرار السودان في حالة من الفوضى، كي يستمر نهب ثرواته، وتدمير مؤسساته.

اليوم، وبعد كل هذه التجارب المريرة، لا بد من وقفة حقيقية، يتجرد فيها الجميع من المصالح الضيقة، وينظرون إلى السودان ككيان يستحق أن يُبنى من جديد. لا يمكن أن نتحدث عن وحدة وطنية دون أن نقتلع جذور الفساد، ونُعيد صياغة المشروع الوطني على أساس العدالة والمساواة. لا بد من مراجعة شاملة لتاريخ السودان، ليس بهدف جلد الذات، بل لفهم كيف تم التلاعب بمصير شعب بأكمله، وكيف يمكن تصحيح المسار.

السودان لا تنقصه الموارد، ولا تنقصه العقول، بل تنقصه الإرادة السياسية الصادقة، والرؤية الوطنية الجامعة. لا بد من إعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة، لا الولاء. لا بد من إنهاء حالة التهميش، وإشراك كل فئات المجتمع في صياغة مستقبل البلاد. لا بد من إنهاء سيطرة النخب الفاسدة، وفتح المجال أمام الشباب، والنساء، والمهمشين، ليكونوا جزءًا من عملية البناء.

إن توحيد السودان تحت علمٍ واحد لن يتم عبر الشعارات، بل عبر العمل الجاد، والمحاسبة، والشفافية. لا بد من الاعتراف بأن ما حدث في الماضي كان نتيجة أخطاء جسيمة، شارك فيها الجميع بدرجات متفاوتة، ولا بد من أن يتحمل كل طرف مسؤوليته. لا يمكن أن نبني وطنًا دون أن نواجه الحقيقة، ونتعلم من التاريخ، ونُعيد صياغة الحاضر بما يخدم المستقبل.

الحكم يجب أن يكون للشعب السوداني، لا للنخب المصطنعة. يجب أن تُعاد صياغة العقد الاجتماعي، بحيث يُصبح الوطن هو المرجعية، لا الطائفة، ولا الحزب، ولا القبيلة. يجب أن تُبنى الدولة على أساس المواطنة، لا الانتماء الضيق. السودان يستحق أن يكون من أعظم الدول، إذا ما توفرت الإرادة، وتم القضاء على الفساد، وتمت إعادة توزيع الثروات بعدالة.

لقد آن الأوان أن ننهض، ونُعيد للسودان مكانته، ونُوحده تحت علمٍ واحد، يُمثل الجميع، ويُعبر عن آمالهم، وطموحاتهم. فهل نملك الشجاعة لنفعل ذلك، أم سنظل نحافظ على بؤر الفساد، ونترك السودان يضيع من بين أيدينا؟ هذا السؤال يجب أن يُجيب عليه كل سوداني، وكل قائد، وكل صاحب ضمير حي.


٧ سبتمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!