السودان بين الضغط الإنساني وتحوّلات الميدان: قراءة في زيارة البرهان إلى جوبا

بين اشتداد الأزمة الإنسانية ونقص الغذاء والدواء والمياه النقية والخيام والأغطية في ظل ظروف شديدة البرد. الي جانب اتساع رقعة المعارك، في محور كردفان يدخل السودان مرحلة جديدة يتداخل فيها الميداني بالسياسي، وتتعانق فيها معارك الأرض مع معارك الشرعية الإقليمية. مشهدٌ مركّب تتقدم فيه القوات المسلحة في محاور متعددة، بينما يتواصل نزيف النزوح هروباً من ويلات التمرد، وتتصاعد احتياجات المدنيين في مناطق تزداد هشاشتها يومًا بعد يوم.
أولًا: أزمة إنسانية تتعمّق مع كل يوم حرب
ما تزال الأوضاع الإنسانية في شمال دارفور وبعض مناطق كردفان تتدهور على نحو مقلق. ففي معسكرات طويلة والدبّة، وداخل الفاشر، يعيش مئات الآلاف من النازحين في ظروف تفتقر إلى أساسيات الحياة:
لا غذاء كافٍ، ولا مياه صالحة، ولا دواء، ولا خيام ولا أغطية تقي الأطفال والنساء موجات البرد والجوع والمرض. ومع توسع رقعة النزوح إلى مناطق من كردفان، تتفاقم الفجوات اللوجستية في سلسلة الإغاثة، وتتعطل القدرة على الوصول الإنساني بفعل تهديدات الميليشيات ونقاط التمركز غير الآمنة. الأمر الذي اقر به وكيل الامين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية توم فليتشر،ومحدودية التمويل المرصود الذي لا يتجاوز ٢٨ بالمئة.
هذه الكارثة الإنسانية التي تعد الاسوأ عالميا، لا تتشكل فقط من نقص الموارد، بل من انسداد قنوات الدعم الدولي ومحدوديتها، وتراجع فاعلية الآليات الأممية، ووسائل النقل والممرات الآمنة، مقابل استمرار المليشيات في شن الهجمات وعرقلة خطوط الإمداد والانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين خاصة النساء في الفاشر. وهكذا تتجاوز الحالة أقسى فصول المعاناة مع أكثر لحظات السيولة العسكرية حدّة.
ثانيًا: مكاسب ميدانية تعيد رسم الخريطة شج
على الجانب العسكري، حققت القوات المسلحة خلال الأيام الماضية تقدمًا لافتًا في شمال كردفان بتحرير أم سيّالة وأم سنطة، في عملية تعدّ من أكبر الانفراجات التي تشهدها المنطقة منذ أشهر. كما تتواصل العمليات العسكرية في محوري بابنوسة وبارا، حيث تعمل القوات على تطويق جيوب التمرد ومنعها من إعادة التموضع.
هذه التطورات تشير إلى تغير نوعي في قدرة الجيش على إدارة المعركة، وانتقاله من مرحلة الدفاع طويل النفس إلى استعادة السيطرة على مساحات استراتيجية تربط بين كردفان ودارفور والخرطوم. كما تُسقط هذه المكاسب رهان المليشيات على إحداث اختراق يغيّر المشهد الميداني أو يفرض شروطًا سياسية جديدة.
ثالثًا: زيارة البرهان إلى جوبا… ما وراء التوقيت؟
في خضم هذه التحولات، جاءت زيارة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى جوبا كرسالة سياسية مركّبة، تتجاوز طابعها البروتوكولي إلى حسابات تتصل مباشرة بساحات القتال والحدود والتحديات المشتركة.
فالزيارة—بهذا التوقيت الدقيق—
والأوضاع الهشة التي يعيشها جنوب السودان ايضاً، تاتي لتؤسس لمرحلة من الارتباط الوثيق لاوضاع البلدين ، بما يتوجب من إعادة تموضع إقليمي بين السودان ودولة جنوب السودان، في ظل ما تشهده الحدود المشتركة من نشاط للجماعات المسلحة وانتقال عناصر مرتزقة يمكن أن تعيد خلط الأوراق في كردفان ودارفور. كما تأتي الزيارة ايضا لتعزيز التنسيق الأمني والاستخباري، وضمان ألا تتحول مناطق الاحتكاك إلى منصات لتهديد استقرار البلدين.
إلى جانب ذلك، تحمل الزيارة رسالة إلى القوى الإقليمية والدولية مفادها أن السودان لا يتحرك منفردًا، وأنه يعيد بناء شراكاته على أساس احترام سيادته ومقتضيات أمنه القومي ومحيطه، في وقت تتعرض فيه البلاد لضغوط سياسية وإنسانية هائلة، ولتدخلات بعضها مباشر وبعضها مستتر على خلفية افرازات الحرب الماثلة.
رابعاً. تلاقي المحاور: من الإنسان إلى الميدان فإلى الإقليم
تبدو الصورة السودانية اليوم كنسيج مترابط، يصعب فصل خيوطه عن بعضها:
• فالأزمة الإنسانية تتغذى من تواصل الحرب.
• والتقدم الميداني يفتح نوافذ أمل لكنه يكشف حجم الخراب الذي خلّفته الميليشيات.
• أما الحراك السياسي الخارجي—وفي مقدمته زيارة جوبا—فيعكس إدراكًا رسميًا بأن معركة السودان لم تعد محصورة في خطوط النار، بل ممتدة إلى شبكات المصالح الإقليمية، ومسارات الضغط الدولي، وسباق تثبيت الشرعية وتوترات الحدود .
إن تلاقي هذه المحاور الثلاثة يمنح المشهد السوداني قراءة أوضح: البلاد تقف على حافة مفترق طرق، بين أزمة إنسانية ضاغطة تتطلب تدخلًا عاجلًا، وميزان ميداني يميل لصالح الدولة، وحراك سياسي يسعى إلى إعادة بناء العمق الإقليمي للسودان بما يضمن حماية حدوده واستعادة أمنه واستقراره وتعزيز استراتيجيته.
ومع استمرار هذه المعادلات في التشكل، تظل قدرة القيادة السودانية على تحويل الانتصارات العسكرية إلى مكاسب سياسية، وتحويل الزخم الإقليمي إلى شبكة دعم متماسكة، هي الفيصل في رسم ملامح المرحلة المقبلة من تاريخ البلاد.وتثبيت التواثق مع الجوار بما يضمن سلامة الاقليم من الاختراقات والارتدادات .
—————-
١٨ نوفمبر ٢٠٢٥ م



