
السودان بعد الحرب: معركة العودة إلى النور والإنتاج
بقلم: د. أمجد عمر محمد
لم يكن سقوط المدافع في السودان نهاية حرب، بل كان انفتاح باب لحرب أخرى أعمق وأشد وطأة: حرب إحياء الروح في الجسد الاقتصادي، ومعركة استعادة الطاقات التي تيبست تحت ركام النيران. لقد تركت الحرب – بما جاوزت العامين والنصف – واقعًا هشًّا كأرض عطشى، وسوق عمل يكاد يكون صامتًا، وأيدٍ كثيرة هجرت أدواتها حتى كلَّت العزائم وخبت المهارات.
آلاف الورش والمصانع توقفت، والمزارع صارت أطلالًا، وشركات كبرى وصغرى أغلقت أبوابها أو اكتفت بالبقاء على قيد الحياة بالحد الأدنى. نزف السودان كفاءاته إلى المنافي، وأُجبر آخرون على التوقف القسري، فصار جلُّ المجتمع بين من يعيش على إحسان الغربة، ومن يتكئ على مبادرات خيرية، ومن انزلق – خاصة من الشباب – إلى العمل العسكري أو أنشطة بعيدة عن مسار الإنتاج المدني.
غير أن الفجوة التي خلَّفتها الحرب لم تكن في المال وحده، بل في الروح والفكر والإيقاع. شبابٌ اعتاد المساعدات أو الأعمال الهامشية يجد نفسه اليوم أمام امتحان العودة إلى نسق الإنتاج، لكن بلا عادة ولا دافعية، وكأن النفس بحاجة إلى “إعادة بعث” قبل اليد. هنا يتجلى التحدي الأكبر للدولة والمجتمع: كيف نعيد دمجهم وتأهيلهم؟ وكيف نعيد غرس بذرة المبادرة بعد أن غطاها غبار الحرب؟
وإذ نضع هذا التحدي نصب أعيننا، فلا بد من الاعتراف أن أجزاءً من البلاد ما زالت تحت النار، وأن تحريرها لا يكون بالسلاح وحده، بل بخلق نموذج في المناطق المستقرة، نموذج إنتاج وخدمات وأمل. حينها تصبح التنمية في بقاع السلام رسالة مضيئة تجذب بقية التراب الوطني، وتبعث في أهله الشوق إلى حضن الوطن، كما ينجذب العطشان إلى مورد الماء.
هذه ليست قضية السودان وحده، فقد سبقتنا أمم خرجت من جراحها لتصنع معجزاتها. رواندا، التي عرفت إحدى أبشع المذابح، أعادت دمج مقاتليها في الزراعة والصناعات الخفيفة ثم التحويلية، فصارت الحرب ذكرى لا عائقًا. البوسنة والهرسك أحيت مصانعها وشبكات إنتاجها مستفيدة من المساعدات الدولية، فخلقت فرصًا جديدة للحياة والثقة.
أما السودان، فطريقه مزدوج: مسار عاجل يفتح أبواب التشغيل فورًا ليستوعب الشباب والأيدي المعطلة، ومسار بعيد المدى يبني بيئة أعمال راسخة، وتشريعات عادلة، وبنية تحتية جاذبة للاستثمار. كلاهما يحتاج أن يوازيه مسار ثالث لا يقل أهمية: إعادة التأهيل النفسي والمهني، وزرع ثقافة الإنتاج في النفوس عبر الإعلام والتعليم والمجتمع.
وعلينا أن نطرق أبواب الميزات النسبية التي يزخر بها السودان: الزراعة، الصناعات الغذائية، الثروات الطبيعية، الطاقة المتجددة. هذه القطاعات قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد سريعًا، وتوظيف آلاف الأيدي، وخلق ثقة في السوق. ومع تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومنح الحوافز والتمويل، يبدأ الحراك الذي يُحيي الأرض بعد موتها.
إن العودة للإنتاج ليست ترفًا ولا خيارًا مؤجلًا، بل هي شرط بقاء الدولة وركيزة سلامها. فكل يوم يضيع دون تشغيل الطاقات هو نزف جديد، وكل فرصة عمل تُخلق هي لبنة في جدار المستقبل. والسودان يقف اليوم على مفترق تاريخي: إما أن نحشد الجهود ونستنهض الطاقات لنصنع وطنًا منتجًا، أو نبقى أسرى المساعدات وانتظار الغائب.
السلام الحق – كما تعلمنا التجارب – ليس غياب الحرب فقط، بل وجود عمل وكرامة ولقمة عيش نظيفة. والسودان، بما يملك من بشر وموارد، قادر أن يخطو هذه الخطوة إذا ما اجتمعت الإرادة والرؤية. إنها لحظة امتحان للأمة: أن تنتصر هذه المرة ،في ميدان البناء والإنتاج بعدما انتصرت في ميدان معركة الكرامة والتي لم يتبقي منها الكثير.