الرواية الأولى

نروي لتعرف

تقارير

“الرواية الاولى” تنشر الترجمة الكاملة لمقال “جيفين سيركين” : لا يمكن استقرار السودان علي أساس محطم

مقال: تايمز أوف إسرائيل Times of Israel

إعادة ضبط الاتفاقيات: لا يمكن استقرار السودان على أساسٍ محطم.

بقلم جيفين سيركين – كاتب وإقتصادي بريطاني – متخصص في إفريقيا

تم الترويج للاتفاقيات الإبراهيمية باعتبارها اختراقًا في درب السلام في الشرق الأوسط، لكن في السودان، أصبحت هذه الاتفاقيات منفصلة عن الواقع بشكل خطير. فقد كان من المفترض أن تعزز عملية التطبيع مع إسرائيل الاستقرار والإصلاح، إلا أنها تحوّلت إلى مشروع معيب وإقصائي، يهدد بتعميق الحرب الأهلية ودفع السودان إلى مزيد من التفتت الجيوسياسي.
كان يجب أن يؤدي تدهور وضع السودان إلى إعادة التفكير الاستراتيجي، ولكن بدلاً من ذلك، لا تزال مساعي التطبيع تمضي وكأن شيئًا لم يتغير، وتمضي مدفوعةً برؤية ضيقة تشكلها أطراف خارجية، خصوصًا الإمارات، وهي متوافقة مع فاعلين يفتقرون للشرعية على الأرض. هذا ليس بناءً للسلام، بل تفكيرٌ رغائبي مغلف بغطاء دبلوماسي.
الخلل الجوهري بسيط: النموذج الحالي للتطبيع يتجاهل تعقيد المشهد السياسي السوداني. إذ يستبعد شرائح واسعة من المجتمع – الحركات الإسلامية، الكيانات القَبَلية، وعناصر النظام السابق – بناءً على افتراضات أيديولوجية لا على أسس استراتيجية. وقد ارتُكب هذه الخطأ من قبل في ليبيا واليمن، حيث انهارت التحالفات المدعومة من الخارج تحت وطأة المقاومة الداخلية والتدخلات الخارجية. ويبدو أن السودان ماضٍ ليكون الفصل التالي في هذا السيناريو الفاشل.
مسار التطبيع مع إسرائيل سار على نفس النهج الخاطئ. فقد بُني على افتراضات بأن النخب العلمانية ستهيمن على السياسة السودانية، وأن القادة العسكريين مثل الفريق البرهان قادرون على إنجاز السلام والشراكات، ومن خلف الأبواب المغلقة، سَيُجبر البرهان في نهاية المطاف على قبول صفقة. لكن النخب العلمانية تشرذمت، وتعاون بعض أفرادها مع مليشيات مثل الدعم السريع فتبخرت شرعيتها واسعة النطاق. وعندما اندلعت الحرب في عام 2023، أصبح مشروع التطبيع ضحية جانبية – مشروعًا نخبويًا بلا قاعدة وطنية.
والأسوأ من ذلك، أن كثيرًا من السودانيين يرون التطبيع اليوم جزءًا من مخطط مفروض من الخارج يعمّق الانقسام بدلاً من تحقيق الوحدة. إن علاقات دولة الإمارات العربية المتحدة الوثيقة مع قوات الدعم السريع قد لوّثت جهودا كثيرة. صحيح أن إسرائيل لا تدعم قوات الدعم السريع، لكن هذا الانطباع العام يقلق. وبالنسبة لكثير من السودانيين، لم تعد الاتفاقيات تتعلق بالسلام مع إسرائيل، بل بمن سيحكم السودان – وبدعم خارجي.
لا يزال بعض صُنّاع القرار يفضلون السودان الأضعف ليسهل دفعه نحو التطبيع. لكن هذا المنطق ليس فقط مضللًا، بل خطير. فإن صفقة تطبيع قائمة على الإقصاء والتفكك لن تجلب السلام، بل ستستفز ردود فعل عنيفة، وتقوي المتشددين، وتكرس دور السودان كممر للتطرف وتدفقات السلاح والتنافس الجيوسياسي بين الشرق والغرب.
لكن هناك مسارًا آخر ممكنًا. مسار يبدأ بإعادة ضبط كاملة – لا لمبدأ التطبيع، بل لآلياته.
وهذا يتطلب التخلي عن اختبارات الولاء الأيديولوجية، والانفتاح على جميع الأطراف السودانية – العلمانيين، الإسلاميين، التقليديين، والعسكريين. نعم، المشهد السياسي السوداني متشظٍّ، لكن الدعم للتطبيع موجود في أماكن غير متوقعة. فهنالك إسلاميون يرون في إسرائيل شريكًا للتنمية، وعلمانيون يشككون بشدة فيه. الدرس هنا؟ لا تبنِ سياسة على أساس تفضيلاتك، بل على أساس من يملك التأثير الحقيقي على الأرض.
قد يرى بعض الإسرائيليين أن هذا النهج عالي المخاطر، لكن الخطر الحقيقي يكمن في الاستمرار باستراتيجية أثبتت فشلها. فقد أدت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق إيلي كوهين للفريق البرهان، قبل أسابيع من اندلاع الحرب الشاملة، ثم صمت إسرائيل بعدها، إلى خيبة أمل لدى العديد من حلفاء السودان. وكما كتب الدبلوماسي السابق مكي المغربي، فقد بدا أن البرهان “تعرّض لطعنة في الظهر”. وعليه، لا يمكن تجاهل هذه التفسيرات.
في الوقت ذاته، فإن مركز الثقل الجيوسياسي في السودان بدأ يتغيّر. فالجيش الوطني استعاد السيطرة على الخرطوم وود مدني وأجزاء من دارفور. وبرز مدير المخابرات، الفريق إبراهيم مفضل، كمحاور موثوق لدى القوى الأوروبية في ملفات الهجرة ومكافحة الإرهاب. ولكن الشرعية في السودان تُكتسب بصعوبة وتُفقد بسرعة. وإن كانت هنالك نية لإحياء مسار التطبيع، فلا بد أن يتماشى مع الواقع الجديد، دون تكرار الأخطاء السابقة.
مصير السودان له أهمية تفوق حدوده. فموقعه الجغرافي المحوري يجعله جسرًا – أو حاجزًا – بين شمال إفريقيا والساحل والبحر الأحمر. وإذا استُخدمت اتفاقيات أبراهام لاختيار رابحين وخاسرين في الحرب الأهلية السودانية، فإنها ستسرّع انهيار البلاد. لكن إذا أعيد ضبطها على أسس واقعية، فقد تُسهم في بناء سلام شامل وفريد يعكس تنوع السودان ويترك أثرًا واسعًا في إفريقيا.
لقد حان وقت المراجعة الجادة. لا يمكن للاتفاقيات الإبراهيمية أن تنجح في السودان ما لم يتم فصلها عن منطق تغيير الأنظمة والتدخل الأجنبي والجمود الأيديولوجي. يجب أن تصبح أدوات لبناء الدولة الشامل، لا أدوات للإقصاء والسيطرة.
من دون إعادة ضبط، لن تُسهم الاتفاقيات في استقرار السودان، بل ستُعمّق انقسامه. ومع إعادة ضبط حقيقية، قد يصبح السودان قصة الإتفاقيات الأكثر نجاحا وإدهاشا.

اترك رد

error: Content is protected !!