الرواية الأولى

نروي لتعرف

آفاق رقمية / د. محمد عبدالرحيم يسن

الرقمنة عبر الزمن (٤)

الإنترنت… من فكرة تقنية إلى أكبر عقل على الأرض.

د. محمد عبدالرحيم يسن



في بداياته الأولى، لم يكن الإنترنت نافذة نطل منها على العالم، ولا مساحة نلتقي فيها ونتبادل الصور والأفكار. كان مجرد محاولة لربط أجهزة حاسوب ببعضها، لتبادل المعلومات بسرعة وموثوقية. فكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها حملت في جوهرها بذرة أحد أكبر التحولات المعرفية في تاريخ الإنسان.
في ستينيات القرن الماضي، بدأ عدد من الباحثين يفكرون في طريقة تجعل الحواسيب تتخاطب فيما بينها. من بين هؤلاء برز اسما “فينتون سيرف وروبرت خان“، اللذان وضعا الأساس لما أصبح لاحقا لغة التخاطب بين الشبكات. هذه اللغة مكنت أجهزة مختلفة، وأنظمة متباينة، من التواصل وكأنها تنتمي إلى منظومة واحدة.
ومع مرور الوقت، اتسعت الفكرة وتفرعت، وخرجت من إطار المختبرات والجامعات. ثم جاءت اللحظة الفارقة عندما قدم “تيم بيرنرز لي” تصورا جديدا لطريقة عرض المعلومات وربطها. تحول المحتوى من ملفات منفصلة إلى صفحات مترابطة، تقود إحداها إلى الأخرى عبر روابط متشابكة، تشبه في امتدادها وترابطها خيوط العنكبوت. من هنا شاع وصفها بـالشبكة العنكبوتية، شبكة بلا مركز واضح، تقود كل نقطة فيها إلى نقاط أخرى.
بهذا التحول، دخل الإنترنت الحياة اليومية للناس، وتجاوز نطاق الاستخدام التقني الضيق. أصبح الوصول إليه ممكنا عبر متصفح بسيط ونقرة واحدة. توسعت الشبكة، وتضاعف المحتوى، وتقلصت المسافات، وأضحى الوصول إلى المعرفة أكثر يسرا وانتشارا، ومع هذا الانتشار الواسع، تغير حجم الإنترنت ودوره. اليوم يستخدم الشبكة أكثر من ستة مليارات إنسان حول العالم، وهو رقم يعكس انتقال الإنترنت من تقنية مساندة إلى بنية أساسية للحياة المعاصرة، وحضورها المتزايد في تفاصيل الحياة اليومية.
وإذا أردنا مقارنة هذا الإنجاز الإنساني بما حفظه التاريخ من عجائب، فإن عجائب الدنيا السبع، على عظمتها، كانت معالم صامتة، يزورها الناس أو يسمعون عنها، لكنها لم تكن جزءا من حياتهم اليومية. الأهرامات، وحدائق بابل، ومنارة الإسكندرية، كلها أبهرت الإنسان في زمانها، لكنها بقيت محدودة بالمكان والزمن. أما الإنترنت، فقد تجاوز مفهوم العجيبة المادية، ليصبح عجيبة حية يستخدمها اليوم ما يقارب ثلاثة أرباع سكان الأرض في الوقت نفسه. لم يسبق في تاريخ البشرية أن وجد شيء واحد، غير ملموس، يربط هذا العدد الهائل من البشر، ويؤثر في تفكيرهم وتعلمهم وتواصلهم بشكل يومي. بهذا المعنى، لم تعد الإنترنت مجرد اختراع، بل ظاهرة إنسانية غير مسبوقة، تفوقت في تأثيرها وانتشارها على كل ما عد يوما من عجائب العالم.
الإنترنت اليوم ليس مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل مساحة تتراكم فيها الخبرات، وتتقاطع فيها الآراء، وتبنى فيها معرفة جماعية. ملايين العقول تكتب وتقرأ وتتفاعل في اللحظة نفسها، في تدفق مستمر من الأفكار. هكذا تشكل ما يمكن وصفه بأكبر عقل عرفته البشرية، عقل لا يملكه فرد، ولا تصنعه جهة واحدة، بل يتكون من مساهمات البشر أنفسهم.
هكذا انتقل الإنترنت من فكرة تقنية محدودة، إلى فضاء معرفي واسع، ومن شبكة أجهزة، إلى شبكة عقول. وبين البداية المتواضعة والحاضر المتسارع، تغيرت علاقتنا بالمعلومة، وبالزمن، وبالمسافة.
وفي خضم هذا التحول الكبير، يبقى السؤال مفتوحا..
كيف نحسن استخدام هذا العقل الهائل، ليظل أداة للمعرفة والتقارب، لا مجرد تيار نسير فيه دون وعي؟..
في العمود القادم من آفاق رقمية نقترب من عالم البيانات.. عندما تتحول التفاصيل اليومية إلى أرقام تحكي قصصا كاملة ..

20 ديسمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!