من آلة تحسب الأرقام… إلى عقل يعيد تعريف الإنسان

.
لم يولد الحاسوب ككائن ذكي، بل كآلة متواضعة تحاول مساعدة الإنسان على عد ما يعجز عن عده بسرعة. كان في بداياته مجرد محاولة لفهم الأرقام،ثم تحول ببطء إلى أداة لفهم العالم، قبل أن يقترب اليوم من لحظة أكثر خطورة، “محاولة فهم الإنسان نفسه”.
عندما تخيل تشارلز باباج -الملقب بأبو الحاسوب- آلته في القرن التاسع عشر، لم يكن يدرك أنه يضع حجر الأساس لثورة ستغير مسار البشرية. كانت الآلة آنذاك ميكانيكية، صماء، بلا ذاكرة أو برامج، لكنها حملت فكرة جوهرية، “أن التفكير يمكن أن يترجم إلى خطوات، وأن العقل يمكن محاكاته“.
ومع منتصف القرن العشرين، خرج الحاسوب من المعامل العسكرية والجامعات ليدخل الحياة العامة، انتقل من غرف كاملة إلى خزائن، ثم إلى مكاتب ، ثم إلى جيوب البشر. وفي كل مرحلة كان يفقد وزنه الفيزيائي، لكنه يزداد ثقلا في التأثير، كلما صغر حجمه، كبر حضوره في حياة الإنسان.
اليوم ، لم يعد الحاسوب مجرد أداة، بل أصبح وسيطا بين الإنسان والعالم، من خلاله نعمل، ونتواصل، ونحب، ونتخاصم، ونتخذ قراراتنا.
ومع هذا التحول، لم يعد السؤال: “ماذا يستطيع الحاسوب أن يفعل؟ بل أصبح: ماذا يستطيع أن يقرر؟
في العقود الأخيرة، لم يتطور الحاسوب في سرعته فقط، بل في طريقته، انتقل من تنفيذ الأوامر إلى تحليل البيانات، ومن التحليل إلى التعلم، ومن التعلم إلى التنبؤ. لم يعد ينتظر أن نخبره بما نريد، بل صار يتوقع ما سنريده قبل أن نطلبه.
هنا بدأ التحول الأخطر.
لم يعد الحاسوب مرآة لذكاء الإنسان، بل منافسا له في بعض المجالات، ومتفوقا عليه في مجالات أخرى. يستطيع اليوم تحليل ملايين الاحتمالات في ثوان، وربط أنماط لا تستطيع العين البشرية إدراكها، واتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة في كثير من الأحيان.
وفي الزمن القادم، لا يتجه الحاسوب ليكون أسرع فقط، بل ليكون مختلفا كليا، لا نتحدث عن أجهزة مكتبية أو هواتف ذكية، بل عن عقول رقمية موزعة، متصلة، تتعلم باستمرار، وتعمل دون توقف. حواسيب لا تغلق، ولا تنسى، ولا تتعب.
سيصبح الحاسوب في المستقبل جزءا غير مرئي من الحياة، لن نحمله، بل سنعيش داخله. سيتحول إلى بنية تحتية للعقل البشري، يسانده، ويوجهه، وأحيانا يقوده دون أن يشعر، سنثق به لأنه يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا.
وهنا السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: “إذا كان الحاسوب يفكر، ويتعلم، ويتنبأ، ويقرر… فما الذي يتبقى للإنسان؟“
هل نصل إلى لحظة يصبح فيها العقل البشري هو الحلقة الأضعف في منظومة التفكير؟
أم أن الإنسان سيعيد تعريف دوره، لا كمنافس للآلة، بل كمنسق أعلى للقيم والمعنى؟
في المستقبل لن يكون نهاية الحاسوب، بل بداية إختبار العلاقة بينه والانسان الذي صنعه. اختبار حدود السيطرة، وحدود الثقة، وحدود ما يمكن تفويضه للآلة.
في الحلقة القادمة، ننتقل من الحاسوب كعقل، إلى البرمجيات كقوة خفية تتحكم في هذا العقل…
15 ديسمبر 2025م.



