البيانات… من الوصف إلى استشراف الغد.

في عمود سابق من آفاق رقمية، توقفنا عند البيانات بوصفها تفاصيل صغيرة تبدأ في الكلام!!، كيف تتحول آثارنا اليومية البسيطة إلى سجل رقمي يعكس سلوك الإنسان واهتماماته، وكيف انتقلت البيانات من دفاتر صامتة إلى مورد أساسي للفهم والتحليل. ونتناول اليوم البيانات، ليس من باب التعريف، بل من زاوية أعمق تمس أثرها في الحاضر والمستقبل.
فالبيانات لا تقف عند حدود تسجيل ما حدث، قيمتها الحقيقية تبدأ لما يحدث بعد ذلك،،،، هنا تنتقل البيانات من الوصف إلى التحليل، ومن قراءة الماضي إلى محاولة استشراف الغد.
وعندما ننظر إلى أنماط متكررة داخل أرقام متراكمة، تبدأ ملامح المستقبل في الظهور، لا بوصفه يقينا، بل باعتباره احتمالا مدروسا.
لذلك لم يعد من المبالغة وصف البيانات بأنها نفط هذا العصر. فكما شكل النفط عصب الاقتصاد في الماضي، أصبحت البيانات اليوم المورد الأهم في الاقتصاد العالمي. الدول والشركات لا تتنافس فقط على الأسواق، بل على امتلاك البيانات، والقدرة على تحويلها إلى معرفة، ومن ثم إلى منتجات وخدمات وقيمة اقتصادية. غير أن الفرق الجوهري أن النفط مورد ناضب، بينما البيانات تتجدد بلا توقف، مع كل تفاعل إنساني جديد في العالم الرقمي. وعندما نتأمل حجم البيانات في العالم اليوم، ندرك حجم هذا التحول، فالعالم ينتج سنويا عشرات الزيتابايت من البيانات، أي مليارات التيرابايت. ولو افترضنا، على سبيل الخيال، أننا أردنا حفظ هذه البيانات ورقيا، لاحتجنا إلى أرشيفات تمتد لآلاف الكيلومترات، تفوق في مساحتها مجموع المكتبات الوطنية في التاريخ. صورة واحدة عالية الجودة، أو دقيقة فيديو، قد تعادل آلاف الصفحات الورقية. هذه المقارنة وحدها تكشف لماذا لم تعد الوسائل التقليدية قادرة على استيعاب العصر الرقمي.
معلوم أن النفط لا قيمة له وهو في باطن الأرض، كذلك البيانات أيضا لا قيمة حقيقية لها دون تنقيب. من هنا ظهر ما يعرف بتنقيب البيانات، وهو مجموعة من الأدوات والتقنيات التي تبحث داخل هذا الكم الهائل لاستخراج الأنماط والعلاقات والمعاني. تشمل هذه الأدوات قواعد البيانات الضخمة، وأدوات التحليل الإحصائي، ولوحات المعلومات التفاعلية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة. هذه الأدوات لا “تفهم” بذاتها، بل تحتاج إلى عقل بشري يطرح السؤال الصحيح، ويحدد السياق، ويفسر النتائج. نلمس أثر ذلك في تفاصيل حياتنا اليومية دون أن نشعر. تطبيق يقترح ما قد نحتاجه، خريطة تتنبأ بالازدحام قبل وقوعه، مؤسسة تستعد لموسم قادم بناءا على سلوك سابق. في كل هذه الأمثلة، لا تعرف البيانات المستقبل، لكنها ترسم إحتمالاته الممكنة.
هذا التحول غير مفهوم التخطيط نفسه، إذ لم يعد السؤال: ماذا نفعل الآن؟ بل أصبح: ماذا سيحدث إن استمر هذا النمط؟ وماذا لو تغير؟ وهنا تظهر قوة البيانات التنبؤية، التي لا تلغي دور الإنسان، بل تعيد تعريفه. فالعقل البشري لم يعد مطالبا فقط باتخاذ القرار، بل بفهم ما تقوله الأرقام، وما لا تقوله أيضا.
ومع ذلك، تبقى البيانات أداة لا أكثر، فالتنبؤ المبني على بيانات ناقصة أو منحازة قد يقود إلى قرارات خاطئة. الأرقام قد تكون دقيقة، لكن تفسيرها قد يضل الطريق إن غاب السياق الإنساني، أو أُهملت العوامل الاجتماعية والثقافية التي لا تظهر في الجداول.
وهكذا، نجد أن البيانات، التي بدأنا الحديث عنها كآثار صامتة، أصبحت اليوم محاولة جادة لفهم الغد، لكنها تظل بحاجة إلى إنسان يوازن بين الرقم والمعنى، وبين الاحتمال والحكمة.
العمود القادم من آفاق رقمية يتناول ، في الرقمنة… إلى أين يمضي الانسان؟
29 ديسمبر 2025م



