الرواية الأولى

نروي لتعرف

آفاق رقمية / د. محمد عبدالرحيم يسن

الرقمنة عبر الأزمنة (٧)

الذكاء الاصطناعي…التعلم سمة الآلة.

د. محمد عبدالرحيم يسن





الذكاء الاصطناعي…التعلم سمة الآلة.

لم يكن الذكاء الاصطناعي قفزة منفصلة في مسار الرقمنة، بل جاء نتيجة طبيعية لعالم امتلأ بالبيانات، وتسارعت فيه الأحداث، وتعقدت فيه القرارات إلى درجة لم تعد معها الخوارزميات التقليدية،قادرة على الإحاطة بكل الاحتمالات.وبرزت الحاجة إلى أنظمة لا تكتفي بالتنفيذ، بل تتعلم من التجربة، وتحسن أداءها مع مرور الوقت.
ويقصد بالذكاء الاصطناعي، في أبسط تعريفاته، قدرة الأنظمة الحاسوبية على محاكاة بعض أنماط التفكير البشري، مثل التعلم والتحليل والاستنتاج واتخاذ القرار، اعتمادا على البيانات والتجربة، لا على الأوامر المسبقة وحدها. وقد بدأ هذا المفهوم في التبلور العلمي منذ منتصف القرن العشرين، حين طرحت الأسئلة الأولى حول إمكانية “تفكير” الآلة، لكنه ظل حبيس النماذج النظرية والتجارب المحدودة إلى أن توافرت له بيئة ناضجة جمعت بين قوة الحوسبة، وتراكم البيانات، وتقدم الخوارزميات.
ومع انتقال الذكاء الاصطناعي من نطاق البحث إلى فضاء الاستخدام، لم يظهر بوصفه نموذجا واحدا، بل تدرج إلى مستويات وأنواع مختلفة. فأبسط هذه المستويات هو الذكاء الاصطناعي الضيق، وهو الأكثر حضورا في حياتنا اليوم، حيث يصمم النظام لأداء مهمة محددة بكفاءة عالية، كالتعرف على الصور، أو تحليل النصوص، أو أنظمة التوصية، دون أي فهم خارج هذا الإطار. هذا النوع لا يدرك السياق العام، لكنه يتقن وظيفته ضمن حدوده بدقة لافتة ومن ابرز الامثلة الروبوتات. ومع تطور تقنيات التعلم العميق، ظهر الذكاء الاصطناعي التوليدي بوصفه امتدادا عمليا لهذا النوع، لكنه أكثر قدرة وتأثيرا، إذ لم يعد يقتصر على التحليل أو التصنيف، بل أصبح قادرا على إنتاج محتوى جديد، نصا أو صورة أو صوتا أو شيفرة برمجية، اعتمادا على ما تعلمه من أنماط سابقة. وقد شكل هذا التحول نقلة من الاستجابة إلى الابتكار المحسوب، وجعل الذكاء الاصطناعي حاضرا بقوة في مجالات الإبداع والمعرفة والعمل اليومي مثل جات جي بي تي وغيرها من النماذج.
وبعد ذلك، يبرز مفهوم الذكاء الاصطناعي العام بوصفه مرحلة لم تتحقق بعد بصورة كاملة، وهو يسعى إلى بناء أنظمة قادرة على الفهم والتعلم عبر مجالات متعددة، ونقل الخبرة من مهمة إلى أخرى دون إعادة تدريب شامل، على نحو أقرب لقدرات الإنسان العقلية. ورغم التقدم الكبير في هذا الاتجاه، ما يزال هذا النوع هدفا بحثيا أكثر منه واقعا تطبيقيا، لكنه يشكل محورا رئيسيا للنقاش العلمي والتقني.
وعند أقصى هذا المسار النظري، يطرح الذكاء الاصطناعي المتفوق، أو ما يشار إليه أحيانا بالذكاء الاصطناعي الجامح، وهو تصور لأنظمة قد تتجاوز القدرات البشرية في التحليل والتعلم واتخاذ القرار في معظم المجالات. ورغم أن هذا المستوى لم يتحقق عمليا، إلا أن مجرد التفكير فيه يثير أسئلة عميقة حول السيطرة، والمسؤولية، وحدود التفويض، وهنا !! تصبح قدرة الآلة على التعلم أسرع من قدرة الإنسان على المراجعة.
إن هذا التدرج في الذكاء الاصطناعي يعكس تحولا جوهريا في علاقتنا بالتقنية. فلم نعد نتعامل مع أدوات صامتة، بل مع أنظمة تتغير معنا، وتتعلم من سلوكنا، وتعيد تشكيل التجربة الرقمية من حولنا. ومع كل تفاعل، نسهم – عن قصد أو دون قصد – في تدريب هذه الأنظمة، وفي رسم ملامح قراراتها المستقبلية.
وهنا، لا يعود السؤال مقتصرا على ما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يفعله، بل يمتد إلى الكيفية التي يتعلم بها، والمعايير التي تبنى عليها سلوكه وقراراته. فالتقنية، مهما بلغت من تطور، تظل انعكاسا للبيانات التي تتغذى عليها، وللخيارات البشرية التي صممت مسارها وحددت أولوياتها.
إن الرقمنة عبر الأزمنة تقودنا في هذه المرحلة من التنفيذ إلى التعلم، ومن التفاعل إلى التأثير، ومن استخدام الأدوات إلى التعايش مع أنظمة ذكية. ومع هذا الانتقال، تتعاظم الحاجة إلى وعي يسبق الانبهار، ويوازي السرعة، حتى يبقى الذكاء الاصطناعي وسيلة تعزز القرار الإنساني، لا بديلا عنه.
في العمود القادم من آفاق رقمية، نقترب من العنصر الأكثر حساسية في هذا المشهد كله…
البيانات: مصدر التعلم، وأساس القوة، وحدود الخصوصية في العالم الرقمي.

27 ديسمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!