الخوارزميات… عندما تبدأ في اتخاذ القرار.

لم تعد الخيارات في العالم الرقمي تصنع لحظة الضغط على زر، بل تهيأ قبل ذلك بكثير. فما نراه على شاشاتنا، وما يصل إلينا من محتوى، وما يعرض علينا كخيار “مناسب”، هو في الغالب نتيجة ترتيب غير مرئي جرى في الخلفية، بهدوء ودقة، قبل أن نظن أننا اخترنا.
هنا يبرز سؤال لا يمكن تجاهله: ما الذي يرتب هذا المشهد؟ وما الذي يحدد ما يظهر لنا أولا، وما يختفي في الظل؟ هنا تدخل الخوارزميات إلى المشهد.
الخوارزمية، في أبسط تعريفاتها، هي مجموعة من الخطوات المنظمة لحل مسألة أو اتخاذ قرار. وهي ليست فكرة وليدة العصر الرقمي، بل تعود جذورها إلى العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، الذي وضع أسس التفكير الخوارزمي قبل أكثر من ألف عام، حتى ارتبط اسمه بالمفهوم ذاته في اللغات العالمية. غير أن ما تغير اليوم ليس الفكرة، بل السرعة، والحجم، واتساع التأثير. في العالم الرقمي، أصبحت الخوارزميات عقولا تعمل في الخلفية، تقرأ البيانات، وتربط بينها، وتستنتج ما يبدو مناسبا لك، في كل لحظة تقريبا.
في حياتنا اليومية، نتعامل مع الخوارزميات أكثر مما نتصور. فهي التي تقترح لنا خبرا نقرأه، أو مقطعا نشاهده، أو حسابا نتابعه، أو طريقا نسلكه. هي لا تملي علينا القرار صراحة، لكنها ترتب المشهد، وتحدد ما يظهر أولا، وما يتراجع إلى الخلف. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك ما يحدث في وسائط التواصل الاجتماعي. فحين تتفاعل مع نوع معين من المحتوى—إعجابا، أو تعليقا، أو حتى توقفا لثوان—تلتقط الخوارزمية هذه الإشارة، وتعيد تشكيل صفحتك تدريجيا. فإذا شاهدت مقطعا عن التقنية، ستجد التقنية تتكرر. وإن توقفت عند محتوى عاطفي أو جدلي، ستزداد جرعته. ومع الوقت، تشعر وكأن “العالم كله” يتحدث في الاتجاه نفسه، بينما هو في الحقيقة انعكاس لمسار رتب لك بعناية.
ومع اتساع حجم البيانات، لم يعد الإنسان قادرا على متابعتها بنفسه، وهنا برز دور الخوارزميات بوصفها وسيلة لتنظيم الفوضى الرقمية كما تدعي. فهي تفرز، وتصنف، وتربط، وتتعلم من النتائج السابقة، ومع كل تفاعل، تصبح أكثر دقة، وأكثر تأثيرا.
هذا التحول نقل الخوارزميات من دور تقني محدود إلى دور مؤثر في السلوك اليومي. فالاختيارات التي نظنها 8شخصية بالكامل، تمر في كثير من الأحيان عبر طبقات من الترتيب والتحليل المسبق. 8ومع الزمن، قد تتشكل العادات والاهتمامات داخل هذا الإطار دون أن نشعر.
ورغم قوتها، فإن الخوارزميات لا تفكر من تلقاء نفسها، هي تعكس ما وضع فيها، وما تتعلمه من سلوك المستخدمين. وتحمل في داخلها تصورات بشرية، وافتراضات، وأولويات، ليست محايدة تماما،إنها تنفذ ما طُلب منها بكفاءة عالية.
وفي هذا السياق، يبرز تحد مهم:
كيف نوازن بين الاستفادة من الخوارزميات، والحفاظ على مساحة القرار الإنساني؟
فالخوارزميات قادرة على تسريع العمل، وتحسين الخدمات، وتسهيل الحياة، لكنها قد تضيق زاوية الرؤية إذا تركت دون وعي.
وحين يصبح الخيار الأسهل هو الخيار المقترح دائما، قد نفقد ببطء القدرة على الاكتشاف خارج المسار المرسوم.
إن الرقمنة عبر الأزمنة لم تنقلنا فقط من البيانات إلى الخوارزميات، بل من الملاحظة إلى التوجيه، ومن التحليل إلى التأثير.
وفي عالم تتسارع فيه القرارات، يبقى الإنسان مطالبا بأن يتوقف، ويسأل:
هل هذا اختياري فعلا؟
أم أنه الطريق الذي رتب لي بعناية؟..
في العمود القادم من آفاق رقمية، نقترب من الذكاء الاصطناعي… عندما تبدأ الخوارزميات في التعلم من التجربة، ويصبح التعلم جزءا من منطق الآلة.
24 ديسمبر 2025م.



