
1
في ثاني لقاء لي مع الرئيس البرهان، ضمن وفد الإعلاميين القادم من الدوحة، رأيت أن كل أعضاء الوفد ركّزوا على ما يجري أمامهم من أحداث، وما يُثار من أسئلة في الفضاء السياسي، وما أكثر القضايا التي لا يمكن الحصول على إجابات عليها إلا من الرئيس البرهان.
ولكن، في تلك الجلسة، رأيت أن أنبّه الرئيس لأمرٍ آخر، وهو ما أسميته “ضرورة وحدة القيادة تحت أي ظرف”.
والسبب الذي دفعني لذلك أنني كنت، قبل يومٍ من لقاء الرئيس، قد التقيت سياسيًا كبيرًا، وهو أحد أعمدة التحالف القائم الآن في السلطة، وتحدّث إليّ بمرارة عن كثير مما يعتقد أنه أخطاء تُرتكب في الدولة، وأنه وصل إلى قناعة بأنه لا مجال للإصلاح.
دخلت معه في نقاشٍ طويل، وأوضحت له خطورة أي اهتزاز في كابينة القيادة، وضرورة أن تظل متماسكة في هذا الظرف الذي تخوض فيه البلاد حرب وجود.
2
في تلك الجلسة، قلت للرئيس البرهان:
«ليس لديّ سؤال، ولا تعليق حول ما جرى، ولكني أودّ أن أقدّم وصية واحدة، وهي ضرورة المحافظة على وحدة القيادة في هذا الظرف؛ إذ إن أي اهتزاز أو ظهور صراعات على السطح يعني تراجع الثقة في القيادة، ويعني خلخلة وانقسام (تحالف حرب الكرامة)، وسيقود ذلك إلى تداعيات خطيرة في جبهة الحرب، وهذا ما لا يخفى عليك.
ولذا فإن أي خلاف حول أي موضوع، مهما كان، فهو ثانوي، ولا ينبغي أن يهدد وحدة القيادة، وأعني بها كل الذين يدعمون الجيش، سواء الذين هم في الميدان، أو من يدعمون الجيش من مواقعهم وأحزابهم السياسية.»
انتهى حديثي للرئيس البرهان في تلك الجلسة.
3
ما دعاني اليوم إلى إعادة التذكير بتلك الوصية، هو ما شهدته الساحة السياسية خلال الأسبوع الماضي من تنازع بسبب الصراع على كراسي السلطة والوزارات، وكادت تلك الصراعات أن تعصف بوحدة القوى التي تقاتل في الميدان.
هناك ظاهرة خطرة بدأت تطل برأسها، وهي تسريب المعلومات من دوائر قريبة من مركز القرار، مما يساهم في الفتن، ويوسّع الشقة بين القيادات، ويهدد الثقة التي يجب أن تتوفر بين من يديرون دفة القيادة في هذه الأوقات الحرجة.
4
سببان استدعيا من ذاكرتي ما قلتُه في لقاء بورتسودان:
الأول، بيان القوات المشتركة، والثاني، ما كتبه يوسف عبد المنان.
بيان “القوات المشتركة” الذي صدر في عصر يوم 13 يوليو 2025، بمناسبة استرداد منطقة أم صميمة، دعا فيه المتحدث باسم القوة المشتركة – العقيد أحمد حسين مصطفى – جميع المواطنين إلى “الوحدة والاصطفاف الوطني ونبذ الخلافات الشخصية، والاصطفاف خلف القوات المسلحة والقوة المشتركة والمقاومة الشعبية”، مؤكدًا أن “مصير الوطن بأسره على المحك، وأن المرحلة تتطلب تكاتفًا حقيقيًا بين جميع القوى الوطنية”.
وحين يدعو قائد ميداني إلى ترك الخلافات الشخصية والاصطفاف الوطني، فلا بد أن الصراع حول السلطة قد بلغ مرحلة تستحق التنويه من أولئك الذين يقدمون أرواحهم فداءً للوطن. ولا بد أن نصغي إليهم.
5
وبعد البيان بيومين، كتب يوسف عبد المنان، وهو قريب من مراكز القرار، ويغطي تداعيات الحرب بمهنية وعمق لا يضاهيه فيه صحفي آخر، كتب يقول:
“نجحت المخابرات الأجنبية في زرع الفتنة وسط القوى الحاكمة التي تقاتل معًا منذ اندلاع الحرب. فتنة السلطة أطلت برأسها، وانشغل الناس بأزمة كامل إدريس، ومن يأتي وزيرًا ومن يذهب، وتآكلت الثقة بين البرهان والشركاء بسبب أزمة مصنوعة، مثلما تآكلت ثقة كثير من الإسلاميين في البرهان، وخاب أمل الاتحاديين، رغم الجهود المضنية والمخلصة للشاب وافر العطاء علاء الدين المستشار.”
هذا، بالإضافة إلى أقاويل كثيرة تدور في أروقة السلطة في بورتسودان، لم تعد خافية على أحد.
6
بعد هذه الإفادات، تصاعدت المخاوف من أن “نظرية إفراغ الدائرة” قد بدأت تشتغل، وأن أصحابها يتبعون ذات السيناريو الذي أسقطوا به الرئيس البشير، وهم الآن لا ينوون فقط إسقاط الرئيس البرهان، بل الدولة نفسها.
ما هي نظرية “إفراغ الدائرة”؟
هي ليست نظرية علمية ذات قواعد راسخة، بل وسيلة عملية لإسقاط العدو من الداخل.
أول مرة سمعتُ بها، كنتُ في القاهرة، صيف أكتوبر 2013. وقتها التقينا – أنا والصديق ضياء بلال – بأحد السودانيين الأميركيين، وكان زميلي في الجامعة، وكان يعمل في واحدة من أهم المنظمات الأميركية، ولعب دورًا مهمًا قبل وبعد التغيير في 2019.
قال لنا في ذلك اللقاء:
“سنسقط البشير في مدى خمس سنوات على أبعد تقدير.”
فضحكنا، فقلت له: أنتم تقولون ذلك منذ ثلاثين عامًا، ولكن كل مخططاتكم فشلت: الحصار فشل، الغزو فشل، الضربات العسكرية فشلت، والنظام ما زال متماسكًا.
قال:
“صحيح، ولكن هذه المرة سنغير الاستراتيجية والتكتيك.”
فنظرنا أنا وضياء إلى بعضنا باستغراب، فقال بثقة:
“سنبدأ بإفراغ الدائرة.”
وأضاف:
“إذا أفرغتَ الدائرة حول الرئيس، وافتقد الشخصيات القوية والمؤثرة التي تملك الرأي والخبرة أكثر منه، فإنه سيملأ الفراغ بآخرين لا يملكون الخبرة، وذلك أول الوهن. وقد بدأنا التنفيذ.”
وكان البشير قد أصدر قرارًا بإقالة صلاح قوش عام 2009، ثم أعاده لاحقًا في فبراير 2018.
7
في نظام كـ”نظام الإنقاذ”، كانت تحيط بالرئيس “الدائرة الصلبة” التي تمثل شبكة الولاء السياسي، والخبرة التنظيمية، والغطاء الأمني.
هذه الدائرة هي التي تحفظ التوازن، وتدير الصراعات الداخلية، وتحمي النظام من الانهيار.
وما إن استُهدفت هذه الحلقة بالتفكيك، تحوّلت إلى نقطة ضعف قاتلة، وهي الفرضية الجوهرية لما نُسميه هنا “نظرية إفراغ الدائرة”.
8
فماذا حدث؟
طُويت صفحة صلاح قوش في 13 أغسطس 2009، ثم كرت السبحة:
في 8 ديسمبر 2013، أُقصي الأستاذ علي عثمان والدكتور نافع علي نافع من مناصبهم الرسمية بشكل مفاجئ، بعد أن كانا يسيطران على مفاصل الدولة.
ثم أُطيح غازي صلاح الدين من منصبه كمستشار سياسي للبشير، ومن حزب المؤتمر الوطني في ذات الشهر.
كما أُقصي 31 قياديًا من المؤتمر الوطني ممن وقعوا مذكرة تنتقد قمع الاحتجاجات وتدعو إلى إصلاحات سياسية.
هؤلاء جميعًا كانوا يُمثّلون ما يمكن وصفه بـ”الدائرة الصلبة”، وقد تميزوا بالحنكة التنظيمية والنفوذ داخل الدولة والمجتمع.
ومع خروجهم، بدأ البشير يعتمد على أجهزة الأمن والمخابرات، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، ووجوه مدنية بلا رصيد سياسي، وتم تهميش الحزب الحاكم والحركة الإسلامية تمامًا، وإبعادهما من دوائر القرار.
وهكذا، تقلصت القدرة المؤسسية للنظام، وتحولت القرارات إلى مسارات فردية أو فوضوية، وبدا الرئيس البشير مضللًا، ومحاصرًا برجال لا خبرة لهم ولا ولاء حقيقي.
9
تفريغ الدائرة لا يضعف الحاكم سياسيًا فحسب، بل يؤثر عليه نفسيًا:
قدرته على اتخاذ القرار تتآكل
ثقته في المحيطين به تتلاشى
وقراءته للواقع تصبح مضللة
وقد تجلى كل ذلك في خطابات البشير الأخيرة، وخاصة خطابه الشهير في 22 فبراير 2019 (الذي أعلن فيه حل الحكومة وإعلان حالة الطوارئ)، مما أدى إلى تدهور متسارع في أحوال البلاد، وتصاعد غضب الشارع، الذي حاول البشير مرارًا استرضاءه، لكن الوقت كان متأخرًا، ورد الفعل غير منسق.
وهكذا، وجد النظام نفسه ضحية لإفراغ مزدوج:
الأول مخطط خارجيًا هدف لإضعاف النظام من الداخل
والثاني صُنع بأيدي أهل النظام أنفسهم، على وقع صراعاتهم التي كانت بلا سقف، وكانت نتيجتها أن ابتعدوا عنه في أكثر اللحظات حرجًا، وتركوه يسقط سقوطًا حرًا أمام أعينهم، كأنه لا يعنيهم!
أُفرغت الدائرة، وسقط النظام، حين فقد توازنه وتخبط، وتكالبت عليه قوى الشر بالداخل والخارج.
كان البشير وقتها يسبح في الهواء وحيدًا، وفي دائرة مفرغة… وبقية الحكاية معلومة للجميع، وهي ما جرت به الأقدار.
10
الآن، تحاول ذات القوى الداخلية والخارجية – نعم، “هي ذاتها” – وبنفس الملامح، والشبه، والقدرة على التآمر، أن تلعب نفس اللعبة مع الرئيس البرهان، مستخدمة ذات النظرية…
كيف؟ نواصل…