الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

الذكاء الأصيل بين القيم والخداع

د. امجد عمر محمد

في زمن اختلطت فيه المفاهيم، وتداخلت فيه القيم، أصبح من الضروري إعادة التذكير بالفارق الجوهري بين الذكاء والفطنة من جهة، وبين الغش والكذب والخداع والخيانة من جهة أخرى. فالأول يُبنى على صفاء الضمير، ونقاء المقصد، والقدرة على الإبداع والإتيان بالجديد الذي ينفع الناس ويحافظ على الثقة الممنوحة من الآخرين. أما الثاني فهو تقويضٌ لتلك الثقة، وهدمٌ لأبسط قواعد الأخلاق، مهما حاول البعض تجميله بمسميات براقة كالدهاء أو الحنكة.

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة تصاعداً لظاهرة إلباس الغش والخداع ثوب الذكاء. فيتم تصوير المراوغة على أنها براعة، والكذب على أنه قدرة على الإقناع، والخيانة على أنها فطنة في اغتنام الفرص. وهذا الخلط لا يضر الأفراد وحدهم، بل ينعكس على المجتمع بأسره حين تنهار جسور الثقة، ويصبح التعامل الإنساني قائماً على الشك والريبة، لا على المصداقية والاحترام.

ومن يتأمل في واقع الخداع يدرك أن أكثر من يتعرضون له هم الذين وضعوا ثقتهم فيمن غدر بهم. فالمخدوع ليس غريباً ولا بعيداً، بل غالباً ما يكون صديقاً أو قريباً أو شريكاً في عمل، قدم ثقته بكل براءة، فجاء الرد خيانةً لذلك العهد. ولذا فإن الخداع في جوهره ليس مجرد خطأ عابر، بل هو جريمة معنوية مضاعفة، لأنها تهدم أثمن ما يملكه الإنسان: ثقته بالآخرين.

ولعلّ القرآن الكريم قد جاء واضحاً في هذا المعنى، حيث قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]. فالخيانة هنا ليست مجرد فعل سلبي، بل هي نقض للعهد مع الله قبل أن تكون نقضاً للعهد مع الناس.

وجاء في الحديث الشريف عن النبي ﷺ قوله: “آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” [متفق عليه]. وهو تأكيد قاطع على أن الكذب والخيانة ليستا من صفات الأذكياء ولا الأوفياء، بل من علامات النفاق الذي يهدم الأخلاق ويُسقط قيمة الإنسان في ميزان المجتمع والدين.

إن الذكاء الحقيقي هو الذي يحافظ على القيم، ويثبت صاحبه عند المواقف العسيرة دون أن يتنازل عن المبادئ. هو القدرة على تحويل التحديات إلى فرص، دون أن يخسر الإنسان صورته الأخلاقية أمام نفسه وأمام الآخرين. أما ما يُسوّق له البعض على أنه “ذكاء” بينما هو في حقيقته خديعة، فلا يعدو كونه انحداراً سلوكياً يضر صاحبه قبل أن يضر غيره.

المجتمعات لا تنهض بالكذب والخداع، بل تنهض بالثقة المتبادلة، بالصدق الذي يرسّخ العلاقات، وبالأمانة التي تبني المؤسسات. وحين نغفل عن هذه الحقائق، ونتهاون في محاسبة السلوكيات التي تتستر بستار الذكاء الزائف، فإننا نسمح بانهيار المنظومة الأخلاقية التي تحفظ تماسك المجتمع.

إن الفرق بين الذكاء وبين الغش كالفرق بين البناء والهدم: الأول يحتاج صبراً وجهداً وإبداعاً، والثاني لا يحتاج سوى لحظة انهيار. والأمم التي تريد أن تبقى على قيد الحياة، وتواصل مسيرتها نحو التقدم، لا بد أن ترفع الذكاء الأخلاقي فوق كل حيلة رخيصة أو مكسب سريع زائل.

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة الاعتبار للمعاني الأصيلة للذكاء والفطنة، بعيداً عن الخلط المتعمد أو غير المتعمد بينها وبين الخداع والغش والكذب. فالأمم التي تكرّس في وعيها الجمعي أن المراوغة مهارة، وأن الخيانة دهاء، وأن الكذب براعة في الإقناع، إنما تسير بخطى واثقة نحو الانهيار القيمي قبل الانهيار المادي. فالثقة هي رأس المال الحقيقي الذي تُبنى عليه المجتمعات، وهي الركيزة التي تحمي العلاقات الإنسانية، وهي أيضاً معيار الكرامة والاحترام بين الناس.

قد يربح الخائن جولةً أو يظفر المخادع بمكسب آني، لكن التاريخ أثبت أن هذه المكاسب زائلة، وأن صاحبها يظل محاصراً بعارها مهما طال الزمن. بينما يظل الإنسان الصادق الأمين، الذي يملك ذكاءً أخلاقياً صافياً، محفوراً في ذاكرة الناس بسيرته العطرة وأثره النبيل. إن الذكاء الذي يُبنى على الخيانة يشبه بناءً مشيداً على رمال متحركة، ينهار عند أول اختبار، أما الذكاء المرتبط بالقيم فيشبه بناءً شامخاً يرتكز على أساس متين، يثبت مهما عصفت به الرياح.

لذلك، فإن مسؤوليتنا جميعاً ـ أفراداً ومؤسسات ـ أن نعيد الاعتبار للصدق والأمانة، وأن نُعلي من شأن الذكاء الذي يحفظ الثقة ويصونها، لا الذي يفرّط بها. وحين ننجح في ذلك، سنكون قد وضعنا اللبنة الأولى لمجتمعٍ متماسك، قادر على التقدم بخطى ثابتة، مستنداً إلى قيم لا تنكسر، وأخلاق لا تهزم، وإرادة لا تُخدع بشعارات زائفة.

اترك رد

error: Content is protected !!