الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

الدولة والجسد : السودان نموذجًا للتعافي والنهضة (1)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

الدولة والجسد : السودان نموذجًا للتعافي والنهضة (1)

خلق الله الإنسان كائنًا مركبًا في بنيته، محكومًا بظروف بيئية وزمانية محددة، لكنه في الوقت ذاته قادر على التعلم والتطور وتحسين واقعه. هذه القدرة الفريدة تجعل منه نموذجًا يمكن القياس عليه في فهم الدول، فهي أيضًا كيانات حية، تخضع لقوانين التكوين والنمو والمرض والتعافي. إذا كان الجسد البشري يتعرض للأمراض والانتكاسات والحوادث، فإن الدولة بدورها تصاب بالأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. هذه المقاربة بين الإنسان والدولة تفتح الباب لفهم عميق لما يمر به السودان اليوم، من حرب وفتن وانقسامات، وكيف يمكن أن يسلك طريق التعافي والنهضة.

الإنسان كائن قابل للمرض والتعافي

1) الطبيعة المركّبة للإنسان:

الإنسان كائن حيّ معقد التركيب، يتكوّن من أجهزة حيوية متكاملة (العصبي، الدوري، الهضمي، التنفسي، المناعي… إلخ). هذه الأجهزة تعمل وفق نظام توازني (Homeostasis)، أي أنها تحافظ على حالة من الاستقرار الداخلي، رغم التغيرات المستمرة في البيئة المحيطة. لكن هذا التوازن هش، إذ يمكن لأي اختلال أن يؤدي إلى مرض أو ضعف في وظيفة الجهاز المصاب.

2) أشكال و مظاهر الأمراض والعلل:

الأمراض الفسيولوجية (Physiological): مثل ارتفاع ضغط الدم أو فشل القلب، وهي اضطرابات في الوظائف الطبيعية للجسد.

الأمراض البيولوجية (Biological): كالأمراض الناتجة عن عدوى ميكروبية (بكتيرية، فيروسية، طفيلية) تؤثر في أجهزة متعددة.

الأمراض النفسية (Psychological): مثل الاكتئاب أو القلق، وهي اضطرابات تؤثر في السلوك والقدرة على التكيف.

الحوادث والصدمات: كالحروق أو الكسور أو الحوادث العرضية، وهذه تمثل “اختراقًا” طارئًا للجسد يخل بتوازنه.

هذه الأمراض والعلل قد تكون جزئية (تؤثر في عضو واحد كالكبد أو الرئة)، أو كلية (تمس عدة أجهزة وتضعف الجسد بأكمله).

3) ديناميكية الاستجابة والعلاج:

نجاح الإنسان في مواجهة هذه الابتلاءات يتوقف على عدة مستويات:

أ. الوعي الفردي: إدراك المرض مبكرًا (التشخيص المبكر).

ب. المعرفة الطبية والعلمية: القدرة على توظيف الطب والعلوم في الوقاية والعلاج.

ج. الظروف البيئية والاجتماعية: فقر أو جهل أو سوء تغذية تزيد من احتمالية الفشل في العلاج.

د. العوامل النفسية والروحية: الأمل والإيمان والقدرة على الصبر تُعزز مناعة الجسد وتسهل التعافي (كما أثبتت دراسات علم النفس الصحي).

4) المعادلة الأساسية الوعي أساس التعافي:

كلما ارتفع مستوى التعليم والتحضر والوعي الصحي للفرد، ارتفعت فرصته في الوقاية والتعافي.

الإنسان المتعلم قادر على تبني السلوك الوقائي (مثل التغذية السليمة، الرياضة، النظافة).

الإنسان الواعي يستفيد من الأنظمة الصحية المتاحة له (تطعيم، فحوصات دورية، علاج مبكر).

الإنسان المتحضر يُحوّل المرض من مأساة إلى فرصة للتعلم وبناء القوة (مثلما يقوي الجهاز المناعي ذاكرته بعد المرض).

وبهذا، يصبح المرض ليس مجرد ابتلاء سلبي، بل تجربة يمكن أن تُسهم في زيادة مرونة الفرد (Resilience)، أي قدرته على التكيف مع التحديات المستقبلية.

الدولة كجسد حي

1) الطبيعة العضوية للدولة:

الدولة كمفهوم، ليست كيانًا جامدًا، بل منظومة حية تتكون من مؤسسات مترابطة (السياسية، الاقتصادية، الأمنية، الاجتماعية)، تشبه في ترابطها الأجهزة الحيوية في جسد الإنسان.

الدستور والقانون هو الجهاز العصبي الذي يوجه الحركة وينظم الاستجابات.

المؤسسة العسكرية والأمنية هي جهاز المناعة الذي يحمي من التهديدات الداخلية والخارجية.

الاقتصاد الوطني هو الجهاز الدوري (الدم) الذي يمد بقية الأعضاء بالطاقة والغذاء.

المجتمع والتعليم والثقافة تمثل و تقوم مقام الرئتان والعقل، حيث يولد الوعي والهوية المشتركة.

عندما يختل جهاز واحد من هذه الأجهزة، يتأثر الكيان كله، كما يختل جسد الإنسان إذا تعطّل عضو رئيسي.

2) تصنيفات الأزمات التي تصيب جسد الدولة:

أ. الأزمات السياسية:

تعطل منظومة الحكم، ضعف المؤسسات الدستورية، صراع النخب على السلطة.

ينتج عنها شلل في اتخاذ القرار، مثلما يُصاب الدماغ بالشلل حين تتعطل إشاراته العصبية.

ب. الأزمات الأمنية والعسكرية:

تفكك الأجهزة النظامية، انهيار الجيش أو الشرطة، انتشار المليشيات.

تمثل انهيارًا في جهاز المناعة الوطني، مما يجعل الدولة عرضة للاختراق الخارجي أو التمزق الداخلي.

ج. الأزمات الاقتصادية:

تتجسد في الفقر، التضخم، البطالة، عجز الموارد، فساد توزيع الثروات.

تعادل فشل الجهاز الدوري في ضخ الدم إلى الأطراف، مما يسبب موت الأعضاء تدريجيًا.

د. الأزمات الاجتماعية:

تفشي الجهل، ضعف التعليم، انهيار قيم التعايش، انتشار القبلية والتمييز.

هذه بمثابة أمراض الجهاز النفسي أو العقلي، التي تفقد الجسد قدرته على الإدراك والتوازن.

3) اختلال التوازن: نظرية “الهوميوستاسيس” للدولة:

كما يسعى جسد الإنسان إلى الحفاظ على توازنه الداخلي (Homeostasis) عبر أنظمة معقدة، فإن الدولة أيضًا تسعى لتحقيق التوازن بين قواها السياسية، مواردها الاقتصادية، أمنها الداخلي، وتماسكها الاجتماعي.

فقدان التوازن السياسي يقود إلى الاستبداد أو الفوضى.

فقدان التوازن الاقتصادي يقود إلى التدهور والاعتماد على الخارج.

فقدان التوازن الأمني يفتح الباب للفوضى والاقتتال.

فقدان التوازن الاجتماعي ينتج تفكك الهوية الوطنية وانهيار العقد الاجتماعي.

كلما تعددت الاختلالات وتعمقت، اقتربت الدولة من حالة “الفشل” (State Failure)، تمامًا كما يقترب الجسد من الموت السريري عند توقف أكثر من جهاز عن العمل.

4) شروط “العافية” في جسد الدولة:

كما يحتاج الإنسان إلى غذاء متوازن، أكسجين، راحة، وعلاج دوري، تحتاج الدولة إلى:

نظام سياسي رشيد يضمن المشاركة، العدالة، والمساءلة.

اقتصاد قوي ومستدام يضمن توزيع الموارد بعدالة في اطار تنمية متوازنة.

أمن شامل يحقق الاستقرار ويحمي السيادة.

مجتمع متعلم ومتماسك يوفر بيئة للنمو والابتكار.

هذه العناصر مجتمعة تشكل “المناعة الوطنية”، التي تمنع الدولة من الانهيار وتمنحها القدرة على مقاومة الأزمات والتعافي منها.

مظاهر أمراض الدولة

كما أن الجسد البشري يُظهر علامات المرض عبر أعراض ظاهرية مثل الحمى والسعال وضغط الدم، فإن جسد الدولة يُظهر أزماته عبر مظاهر اجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية، تمثل جميعها أعراضًا سطحية لأمراض أعمق. هذه المظاهر ليست سوى مؤشرات تحذيرية على اختلال التوازن البنيوي في كيان الدولة.

1) مفهوم “الأعراض” في الجسد والدولة:

في الطب، لا يتم تشخيص المرض مباشرة من خلال النظر إلى العضو الداخلي، بل عبر الأعراض الخارجية (كالحمى والسعال وضغط الدم). هذه الأعراض ليست المرض ذاته، بل إشارات على وجود خلل أعمق.
بنفس القياس، فإن الحروب الأهلية، المجاعات، الفقر، الجهل، والنزوح ليست هي “المرض السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي” بحد ذاته، بل مؤشرات حيوية (Vital Indicators) على وجود اختلالات جوهرية في جسد الدولة.

2) الحروب الأهلية شلل في الوظائف الحيوية:

يبدو أثر الحروب الأهلية بائناً في توقف دورة الإنتاج، انهيار مؤسسات الدولة، وتفكك النسيج الاجتماعي. والحروب الأهلية هي أخطر أعراض مرض الدولة. فهي لا تقتصر على صراع مسلح بين فئات أو جماعات، بل تعني:
تعطل مؤسسات الدولة الرسمية و على رأسها القضاء، البرلمان، والأجهزة التنفيذية.
استنزاف الموارد الاقتصادية حيث تتحول الأموال من التنمية والخدمات إلى تمويل الحرب.
تفكك العقد الاجتماعي بانهيار الثقة بين المواطن والدولة

كمقارنة طبية نجد أن الحرب الأهلية أشبه بجلطة دماغية (Stroke) او نوبة قلبية، توقف الإشارات العصبية و يتعطل عمل الجهاز المركزي (الدماغ /القلب) بين أجزاء الجسد، فتتعطل الوظائف وتُشل الحركة.

والنتيجة الحتمية هي استنزاف موارد الدولة، تحوّلها من التنمية إلى البقاء، وتآكل قدرتها على اتخاذ القرار.

3) المجاعات وسوء البيئة – انهيار الجهاز الغذائي والمناعي:

حين تعجز الدولة عن تأمين الغذاء أو حماية بيئتها، فإن ذلك يؤدي إلى:
انهيار منظومة الأمن الغذائي بضعف الإنتاج الزراعي، اعتماد كامل على الإغاثة الخارجية.
انتشار الأمراض الوبائية بسبب تلوث البيئة وضعف خدمات الصحة العامة.
ضعف القوى العاملة، فالمجتمع المريض والمجوّع لا يستطيع الإنتاج أو الدفاع عن نفسه.

المجاعات و سوء البيئة يؤدي بشكل مباشر إلى تفشي سوء التغذية، أمراض بيئية، ارتفاع معدلات الوفيات، وإضعاف القوى العاملة.

وكمقارنة بالجسد، نجد أن المجاعة مثل فقر الدم المزمن (Anemia) أو فقدان المناعة، حيث يصبح الجسد عاجزًا عن مقاومة أي مرض طارئ. فهي مثل فقدان الجسد لمصادر التغذية والأكسجين، فينهار جهازه المناعي ويصبح عرضة لأي عدوى.

و النتيجة المتوقعة هي دولة ضعيفة البنية التحتية البيئية والغذائية، غير قادرة على حماية مواطنيها، معرضة لانهيارات متكررة.

4) الفقر والجهل – تدهور النظام العصبي والتعليمي:

الفقر و الجهل يعني تعطيل التنمية، ضعف الإنتاجية، وعجز الأجيال عن قيادة التغيير. وهما أكثر الأعراض خطورة على المدى الطويل، لأنهما يضربان جذور التنمية:
الفقر: يخلق حلقة مفرغة من الحرمان، الجريمة، والعنف الاجتماعي.
الجهل: يضعف الوعي الفردي والجماعي، ويجعل المجتمع عرضة للتلاعب السياسي والديني والقبلي.

حيث يؤدي ذلك إلى تعطيل الإصلاحات، فشل التنمية، غياب الاستقرار.

وكمقارنة بالجسد، نجد أن الجهل والفقر أشبه بمرض تنكّسي في الجهاز العصبي (Degenerative Disease)، حيث يفقد الجسد تدريجيًا قدرته على الحركة والإدراك، حتى ينهار تمامًا، وكما يؤدي تدهور الجهاز العصبي إلى فقدان الجسد قدرته على الحركة والتفكير، فإن تفشي الفقر والجهل يؤدي إلى شلل المجتمع وفقدان قدرته على التقدم.

ونتيجة ذلك انما هو استمرار الحلقة المفرغة من الفقر إلى الجهل إلى مزيد من الأزمات، ما يجعل الدولة سجينة التخلف.

5) النزوح والهجرات – نزيف الدم الوطني:

إن النزوح و الهجرات (النزوح الداخلي والهجرة الخارجية)، من أبرز مظاهر مرض الدولة. فهي لا تعني مجرد انتقال أشخاص من مكان إلى آخر، بل:
نزيف رأس المال البشري، بفقدان الكفاءات، العلماء، العمالة الماهرة.
تفريغ المناطق المنتجة، بترك القرى والأراضي الزراعية والصناعية خاوية.
ضغط على المدن والدول المستقبلة، مما يخلق أزمات سكنية وخدمية وأمنية.

وكمقارنة بالجسد، نجد ان النزوح والهجرة أشبه بالنزيف الحاد (Hemorrhage) الذي يفقد فيه الجسد دمه وقواه الحية، فإذا استمر بلا علاج قد يؤدي إلى الوفاة. فالمقارنة الطبية تشير إلى أن النزوح أشبه بالنزيف الحاد في الجسد، حيث يفقد الدماء التي تغذي أعضاءه، ومعها يفقد طاقته الحيوية.

اما نتيجة ذلك فهو تقلص قاعدة المجتمع القادر على البناء، وتتحول الدولة إلى جسد منهك بلا قوى حية.

6) المؤشرات الحيوية للدولة “لوحة التشخيص”:

كما يقيس الطبيب ضغط الدم، معدل النبض، ونسبة الأكسجين كمؤشرات أساسية على صحة الجسد، يمكن قياس صحة الدولة عبر مؤشرات حيوية مشابهة لقياس عافيتها:
المؤشرات السياسية: كدرجة الاستقرار، مستوى المشاركة الشعبية، واحترام حكم القانون.
المؤشرات الاقتصادية: كمعدل النمو، مستوى الفقر، نسبة البطالة، نسب التضخم، وتوزيع الثروة والموارد.
المؤشرات الاجتماعية: كمستوى التعليم، جودة الصحة، درجة والتماسك المجتمعي.
المؤشرات الديموغرافية و السكانية:كحجم النزوح، معدلات الهجرة، نمو القوة العاملة ونسبة الشباب العاملين.

هذه المؤشرات لا تُعالج الأعراض بحد ذاتها، لكنها تمثل لوحة حيوية (Vital Signs Panel) تساعد في تشخيص “مرض الدولة” وتحديد خطط العلاج. كلما تدهورت هذه المؤشرات، كان ذلك دليلًا على أن جسد الدولة يعيش حالة مرضية تحتاج إلى تدخل عاجل.

7) شواهد دولية مماثلة :

هناك شواهد لدول عانت من الحروب الأهلية أو المجاعات أو الفقر، منها على سبيل المثال:

الحروب الأهلية: مثال لبنان في السبعينيات–التسعينيات، أو الصومال بعد 1991م.

المجاعات وسوء البيئة: مثال إثيوبيا في الثمانينيات، حيث المجاعة أنهكت الدولة والمجتمع.

الفقر والجهل: مثال بنغلاديش في السبعينيات والثمانينيات قبل أن تنهض بالتصنيع.

النزوح والهجرات: مثال سوريا بعد 2011م أو أفغانستان.

إن الحروب، المجاعات، الفقر، الجهل، والنزوح ليست أمراضًا في ذاتها، بل أعراض تكشف أن جسد الدولة مريض. تجاهل هذه الأعراض أو معالجتها بشكل سطحي أشبه بإعطاء مسكنات لمريض السرطان؛ قد تخفف الألم مؤقتًا لكنها لا توقف التدهور. أما العلاج الحقيقي فيبدأ بتشخيص الجذور، ثم وضع خطة تعافٍ شاملة تُعيد للدولة توازنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

إنَّ الدولة، كالجسد، لا تنهار فجأة ولا تنهض صدفة؛ بل تمر عبر مسار ممتد من التوازن والاختلال، من العافية والمرض. وقد حاولنا في هذا الجزء أن نرسم ملامح “الجسد السياسي” عبر تشريح أزماته وأعراضه ومؤشراته الحيوية، وكيف تتشابه مع ما يصيب الإنسان من أمراض واضطرابات.
فالأنظمة السياسية هي الجهاز العصبي، والمؤسسات العسكرية والأمنية جهاز المناعة، والاقتصاد شريان الدم، والتعليم والثقافة هما العقل والوعي الجمعي. ومتى ما اختل عضو من هذه الأعضاء، انعكس أثره على الجسد كله.
لقد بيّنت المقاربة أن ما نراه من حروب أهلية أو مجاعات أو فقر أو نزوح، ما هو إلا أعراض سطحية لأمراض أعمق في البنية الداخلية للدولة. وإذا كان العالم قد شهد تجارب مريرة مشابهة في لبنان، أو الصومال، أو إثيوبيا، أو سوريا، فإن هذه النماذج لا تختلف كثيرًا عن حال السودان اليوم.

لكن يبقى السؤال الجوهري، (إذا كان هذا هو التشخيص العام، فكيف يظهر المرض في جسد السودان تحديدًا؟)، (وما هي العلل التاريخية والاجتماعية والسياسية التي راكمت هذا الاختلال حتى انفجر في حربه الأخيرة؟)،(ثم، ما هي الإمكانات الكامنة التي ما زالت قادرة على أن تجعل من هذا الجسد المريض وطنًا معافى؟).

هذه الأسئلة ستكون مدخلنا في الجزء الثاني من هذا المقال، حيث ننتقل من التشخيص العام إلى التطبيق الخاص: السودان نموذجًا للتعافي والنهضة.

اترك رد

error: Content is protected !!