من اعماقي / د. امجد عمر

الدافعية: المحرك الخفي للإنجاز


بقلم: د. أمجد عمر محمد

لا يمكن لأي إنجاز بشري أن يتحقق دون وجود قوة خفية تدفع الإنسان للسعي، تبث فيه روح المبادرة، وتوقظ فيه العزيمة، تلك القوة هي “الدافعية”. إنها الوقود النفسي الذي يحرك السلوك، ويحدد الاتجاهات، سواء في العمل، أو التعلم، أو الإبداع، أو حتى العلاقات الاجتماعية. ليست الدافعية مفهوماً نظرياً أو رفاهية فكرية، بل هي حجر الأساس في كل نهضة فردية أو جماعية، وهي مفتاح التقدم الحقيقي للأمم.

تنقسم الدوافع إلى نوعين أساسيين: داخلية وخارجية. الدوافع الداخلية تنبع من الذات، كحب المعرفة، والسعي للتميز، والفضول، والشعور بالإنجاز. وهي أعمق أثراً وأكثر ديمومة، لأنها تقوم على رغبة داخلية لا ترتبط بمكافأة أو عقوبة. أما الدوافع الخارجية، فتتولد من المؤثرات المحيطة، كالحوافز المادية، أو التشجيع الاجتماعي، أو الخوف من الخسارة. ورغم أنها مفيدة أحياناً، إلا أنها قد تفتقر إلى الاستمرارية إذا لم تترسخ بدافع ذاتي.

من يملك دافعاً داخلياً أصيلاً، يواصل التقدم حتى في غياب الدعم، لأنه يستمد متعته من المحاولة، ويجد نفسه في رحلة الإنجاز، وليس فقط في نهايتها. وهذا ما يجعل الدافعية عنصراً لا غنى عنه في حياة أي شخص يسعى لتحقيق هدف، أياً كان حجمه أو طبيعته. فمن دون دافع، لا تبدأ الخطوة الأولى، ولا تكتمل الرحلة.

يحتاج كل إنسان إلى دفعة تحركه من السكون إلى الفعل، وتمنحه القدرة على مواجهة التحديات، والصبر على المصاعب. وتزداد أهمية هذه القوة في البيئات التي تفتقر إلى الفرص، وتغلب عليها الإحباطات. ولكي تكون الدافعية فعالة، ينبغي أن تُبنى على رغبة واضحة، وطموح معقول، وتقدير ذاتي، وأن تحاط بدعم من الأسرة والمجتمع.

الناس يختلفون في دوافعهم؛ فهناك من يحركه الطموح، وآخر يحركه التحدي، وغيرهم يخافون من الفشل. هذا التباين يجعل فهم دوافع الذات ودوافع الآخرين مفتاحاً للتعامل الناجح، سواء في القيادة أو التربية أو العلاقات. ومن الظلم أن نصف الإنسان السوداني بالكسل، فهذا حكم جائر بعيد عن الحقيقة. فحين يجد السوداني الدافع المناسب، يتحول إلى نموذج في الجدية والإتقان، كما يشهد بذلك أداؤه في ميادين العمل بالخارج، وتميزه في الطب والهندسة والتعليم والمجالات المهنية.

المشكلة ليست في الإنسان، بل في بيئة تُهمش المحفزات وتكبت الطاقات. ولذلك، تقع على عاتقنا مسؤولية غرس روح الإبداع والطموح في نفوس أطفالنا منذ الصغر. علينا أن نعيد صياغة خطابنا التربوي، فننتقل من منح المكافآت العشوائية، إلى إشراك الطفل في التفكير والإبداع. بدل أن نقول: “تعال هاك الحاجة دي”، لنقل: “شنو رأيك تنفذها بطريقتك؟”، أو “كيف ممكن ننجزها بشكل أفضل؟” فبهذه الطريقة نوقظ الدافع الداخلي، وننشئ جيلاً يبدع ولا يكرر، يبادر ولا ينتظر.

لدينا الكثير من النماذج السودانية الملهمة؛ العامل الذي بدأ من الصفر في الخليج، فأصبح مديراً ناجحاً، أو الطالب الذي غادر الوطن حاملاً حلمه فعاد حاملاً شهادة وتقديراً دولياً، أو الحرفي الذي بنى مجده من ورشة صغيرة. هؤلاء لم يكونوا أصحاب حظ استثنائي، بل وجدوا مناخاً يثمّن الجهد، ويوفر الحافز، ويفتح المجال.

وقد قال الله تعالى: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى” [النجم: 39-40]، تأكيداً على أن قيمة الإنسان تقاس بما يبذله من جهد، لا بما يقال عنه أو يُتوقع منه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز…” [رواه مسلم]، في دعوة صريحة لأن يكون الإنسان إيجابياً، مبادراً، معتمداً على نفسه، مؤمناً بقدرته على التغيير.

في نهاية المطاف، نحن بحاجة إلى ثورة تربوية ومجتمعية تُعيد للدافعية مكانتها. نحتاج إلى بيئة تُشعل الحماس في النفوس، تحترم المحاولات، وتقدّر الأفكار، وتفتح المجال للتجربة والخطأ. علينا أن نحتضن طموحات أبنائنا، نؤمن بأفكارهم، ونشجعهم على الطموح اللا محدود.

فلنبدأ من منازلنا ومدارسنا وأحيائنا، نربي أبناءنا على أنهم قادرون على التغيير، على الإبداع، على التفوق، مهما كانت الظروف. نعلمهم أن المحاولة شرف، وأن الإنجاز حق، وأن الفشل ليس نهاية. لنجعل كل طفل سوداني يرى في نفسه مشروع قائد، لا تابعاً؛ صانع للفرص، لا متلقياً لها. وحين ننجح في ذلك، سنبني سوداناً جديداً، لا مكان فيه للركود، بل وطن ينبض بالحياة، يشق طريقه بين الأمم بثقة وإرادة وعزم لا يلين.

اترك رد

error: Content is protected !!