
في منتصف أبريل 2023، دخلت الخرطوم في نفق مظلم بعد أن اقتحمتها مليشيا الدعم السريع، تحت شعارات مزيفة كتحقيق الديمقراطية وإزالة ما يُعرف بـ”دولة ٥٦” والكيزان. على أرض الواقع، لم يكن ما حدث سوى تطبيق ممنهج لسياسة الأرض المحروقة، حيث تم تدمير البنية التحتية، وانهيار الخدمات الضرورية، وتحولت العاصمة إلى مدينة منهكة تئن تحت وطأة الدمار.
الأحياء التي كانت تنبض بالحياة تحولت إلى ساحات قتال، وانقطعت المياه والكهرباء، وأُغلقت المدارس والمستشفيات، ما جعل الحياة اليومية للمواطنين مجرد معركة للنجاة. وسط هذا الخراب، ظهرت حالة نفسية أطلق عليها المواطنون “الخرطوم فوبيا” — خوف داخلي من العودة إلى العاصمة، غذّاه إعلام موجّه ومضلل، صوّر الخرطوم كمدينة محطمة بلا مستقبل، ونشر بين الناس شعورًا بالخوف واليأس من التفكير في إعادة بنائها.
لكن الخرطوم ليست مدينة تُنسى، بل هي رمز للوجدان السوداني. تشويه صورتها لم يكن صدفة، بل خطة تهدف لعزلها عن المشهد الوطني، وتحويلها إلى مصدر للخراب بدلًا من كونها قلبًا نابضًا للوطن. المليشيا استخدمت الإعلام لترسيخ هذا التصور، فاختفت الدعوات لإعمارها، وانهارت المبادرات الشعبية أمام موجات التحذير والتخويف المتعمد.
في المقابل، كانت الحكومة غائبة عن المشهد، ولم تبادر بالتحرك كما يتوقع المواطن منها. فبدلًا من خطة واضحة لإعادة المياه والكهرباء، وتشغيل المدارس والمرافق الصحية، اعتمد الناس على جهود فردية محدودة، في ظل غياب التنسيق الرسمي. وهنا يأتي النقد: الحكومة لم ترتقِ إلى مستوى الأزمة، ولم تكن بحجم مسؤولية إنقاذ العاصمة.
لكن لا يمكن إغفال أي جهد إيجابي، فبعض المؤسسات حاولت تقديم مساعدات أولية، وبعض المناطق شهدت مبادرات لإعادة الخدمات، وإن كانت محدودة وغير منتظمة. هذا يُعد بداية ضعيفة لكنها قابلة للتطوير، إن توفرت الإرادة والجدية.
إن العودة إلى الخرطوم لا تعني فقط استعادة المدينة، بل تعني إسقاط مشروع هدم الدولة وكسر كل ما ردده المتمرد حمدتي وأخوه وثلّته وداعميه. الخرطوم إذا انتعشت من جديد، تنهار كل خطط الفوضى، وتعود للسودان مكانته وهيبته.
ولتحقيق ذلك، لابد من خطة وطنية تنطلق من إعادة تشغيل الوزارات وتوفير سبل العيش الكريم. فالمواطن السوداني يستحق خدمات أساسية تحترم كرامته: مياه، كهرباء، تعليم، وصحة. يجب أن تتحول الشعارات إلى أفعال، وأن تعمل الحكومة على إعادة الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة.
وهنا، تنبع الحاجة إلى دور السودانيين بالخارج والنازحين، وخاصة الشباب. العودة الطوعية للخرطوم هي فعل وطني قوي ورسالة صمود في وجه محاولات التدمير. المبادرات الشعبية يمكن أن تكون الأساس لعودة منظمة تزرع الحياة من جديد، وتبعث الأمل في نفوس الناس.
السودانيون لا ينهزمون بسهولة. ورغم أن الخرطوم فوبيا كانت مؤلمة، إلا أن بإمكاننا التغلب عليها، إن توحّدت الإرادة وتعزّزت الثقة. الخرطوم ليست مدينة محطمة، بل قصة نهوض جديدة تنتظر من يكتب فصولها القادمة.
فلنبدأ من اليوم. ولتكن العودة إلى الخرطوم هي الخطوة الأولى نحو استعادة السودان الذي نحلم به جميعًا—سودان العدالة، والكرامة، والوطن الواحد.
١٣ يوليو ٢٠٢٥ م