الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

“الخرطوم تستعيد المبادرة: قمة البحيرات، انتصارات الميدان، وتحولات الإقليم”

السفير د. معاوية التوم

في خضم تداعيات الغزو الخارجي المحتدم على السودان، بكل أطرافه ورعاته وآثاره وتمظهراته المختلفة، باتت المعادلات الدبلوماسية تتغيّر بسرعة. الخرطوم لا ترنو الآن فقط إلى الانتصار ميدانيًا، بل تسعى لإعادة تموضعها الاستراتيجي عبر تحالفات أفريقية وعربية ومن خارج الاقليم، وتحويل الزخم العسكري إلى مكاسب دبلوماسية. قمة البحيرات العظمى في كينشاسا، الانتصارات في محاور مثل كردفان، والزيارات العربية البارزة، كلها تشكّل فصلاً جديدًا في استعادة الدولة السودانية المبادرة.
تشهد البلاد تحوّلاً ملحوظًا في استراتيجيته الدبلوماسية، عبر تسريع تواصله مع الدول الأفريقية، الاستفادة من مكاسب ميدانية في محاور مثل محور كردفان، والتنسيق مع حلفاء دوليين كالسعودية، في الوقت الذي تُظهر فيه تحركات متناقضة من الإمارات. هذه الخطوات لا تشكّل فقط بيانات رمزية، بل ترسم ما يمكن اعتباره «دفعة او قفزة استراتيجية» لإعادة إنتاج سردية الدولة الرسمية في وجه التمرد الدولي والإقليمي.

1.قمة البحيرات العظمى في كينشاسا: الانخراط الأفريقي كرافعة استراتيجية
مشاركة السودان في القمة التاسعة لدول البحيرات العظمى التي عقدت في كينشاسا، ممثلاً بـ الفريق مهندس إبراهيم جابر، مؤشر قوي على رغبة الخرطوم في إعادة بناء تحالفات أفريقية مهمة.
في البيان الختامي، أوصت دول البحيرات العظمى بأن يدين مجلس الأمن الدولي مليشيا الدعم السريع ويصنفها كمنظمة إرهابية، مطالبة بـ “محاسبتها على الفظائع المرتكبة بحق الضحايا المدنيين”.
إلى جانب ذلك، ركّزت القمة على ضرورة تنظيم استخدام المعادن النفيسة في دول الإقليم، بما في ذلك الذهب من السودان، لضمان عدم استغلاله لتمويل المليشيات.
هذه المخرجات تمنح السودان غطاءً سياسياً قويًا على المستوى الإقليمي، يبرز مع تنامي الوعي الدولي بمجريات الأوضاع ومترتباتها. وتضع قضيته ضمن أولويات دول تؤمن بأهمية السيادة والاستقرار في البحيرات العظمى. من منظور الخرطوم، هذا التحالف ليس فقط منصة دبلوماسية، بل وسيلة لضغط دولي وإقليمي على داعمي التمرد، وربما لخلق لوبي أفريقي يُساند خطوات تحقيق دولي ومحاسبة وتجميد تمويل وتجفيف موارد التسليح والمرتزقة.ربما يتصاعد عبر الاتحاد الأفريقي ليبلغ مجلس الامن بغية قرار دولي ضد المليشيا.

2.الربط بين الفضاء الدبلوماسي والانتصارات الميدانية
الزخم الأفريقي المكتسب من كينشاسا يتزامن مع مكاسب ميدانية حقيقية للجيش السوداني: في محاور مثل محور كردفان، تشير التقارير إلى استعادة كل من ام دم حاج أحمد وكازقيل. بينما أُعلن عن تعبئة عامة لزيادة قدرات القتال والحسم الوطني . هذا المزيج من القوة العسكرية والدعم الاقليمي الدولي يمنح الخرطوم مصداقية مضاعفة: الدولة ليست محاصَرة، بل قادرة على الانتصار، والتحالفات الإقليمية تتنامى لدعم مشروعها الوطني في دحر التمرد والقضاء على من ينازعونها الشرعية .
من زاوية استراتيجية، هذا الربط يحول الصراع من نزاع داخلي إلى مواجهة ذات بُعد إقليمي: الخرطوم تعمل على إظهار أن تمرد الدعم السريع يهدد استقرار دول الجوار والاقليم، وله تأثير في أسواق المعادن والنقل والحدود وتدفق السلاح ، وهنا تأتي شرعية دعوة البحيرات العظمى لمعالجة هذا الخطر بجهود جماعية في طريقها للتشكل على مستوى الاتحاد الأفريقي والايغاد لتمضي الي مجلس الامن بسند افريقي .

3.التحالف السعودي السوداني : دعم استراتيجي لموقف الدولة تفتح زيارة ولي العهد السعودي المرتقبة إلى واشنطن نافذة لإعادة تموضع المملكة كلاعب مركزي في أمن البحر الأحمر وشرق أفريقيا، بما يتيح استعادة المبادرة في الملف السوداني عبر منصة بديلة لمنبر جدة، أكثر توافقًا مع المحددات التي أعلنتها القيادة السودانية لقبول أي مبادرة خارجية. تقوم هذه المقاربة على ثلاث ركائز:

• المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الرياض والخرطوم وواشنطن في حماية الممرات البحرية وتأمين سلاسل الإمداد واحتواء الفوضى الإقليمية التي تهدد الأمن الدولي وازدياد الإدانة باتجاه المليشيا.

• الدور القيادي للمملكة في النظام العربي والخليجي والإسلامي ، وقدرتها على بناء توازنات إقليمية تُقصي الأطراف المعرقلة، وتضمن مسارًا تفاوضيًا لا يشرعن المليشيات ولا يساويها بالدولة السودانية

• التفاهم الأمريكي–السعودي حول ضرورة وقف تدفق السلاح والمرتزقة ومواجهة التدخلات السلبية في شرق أفريقيا، ما يجعل الرياض الشريك الأكثر قبولًا وفاعلية لواشنطن وللخرطوم على السواء تعيد التوازن والاستقرار.
بهذه العناصر يمكن بلورة منصة جديدة او شبكة أمان توافقية، تستند إلى الشرعية السودانية وتضمن دعمًا دوليًا متوازنًا، وتعيد للمملكة موقعها الطبيعي كضامن للاستقرار في المنطقة

4.تحركات الإمارات ومناورات الرباعية:
بينما يبني السودان تحالفاته، تسعى الإمارات بالمقابل للتشويش، من وحي اتصالات وزير خارجيتها بماركو روبيو (وزير الخارجية ومستشار الامن القومي الأميركي)، اضافة لاتصالات مسعد بولس بوزير الخارجية المصري، في محاولة لإعادة الهدنة والرباعية، رغم مواقف السودان المعلنة عن عدم جدوي هذه الالية في وجود الإمارات داخلها. مما يعوق اى امل في فاعلية للوساطة أو إعادة الدفع باتجاه هدنة. هذه المناورات الإماراتية تعبّر عن رغبة أبوظبي في الحفاظ على دور ما في المعادلة السودانية غير منظور .
لذلك تواجه المساعي الإماراتية لإحياء دور «الرباعية» مجددا على الملف السوداني ضعفًا متزايدًا، نتيجة تراجع قدرتها على التأثير على واشنطن في هذا التوقيت تحديدًا. فالحملة الدولية المتكاثفة التي تتهم أبوظبي بدعم وتسليح المليشيا – بما في ذلك الضغوط الأوروبية والإفريقية وتقارير المنظمات والأجهزة الأممية – خلقت بيئة سياسية خانقة تجعل من الصعب على الولايات المتحدة تبني أي مقاربة جديدة تضع الإمارات في موقع الشريك أو الوسيط النزيه. كما أن الخطاب الأميركي الأخير، سواء في الكونغرس أو الخارجية، بدأ يتجه نحو تحميل أطراف الدعم الإقليمي مسؤولية إطالة أمد الحرب، ما يقيّد هامش الحركة الإماراتي ويُضعف قدرتها على فرض الرباعية أو إعادة تدويرها، خصوصًا مع تنامي القناعة الدولية بأن أي مسار سلام يجب أن يُبنى على وقف تدفق السلاح وضبط التمويل العابر للحدود، لا على ترتيبات سياسية تُشرعن للفاعلين المتورطين
. إذا ما نجحت الخرطوم في تحويل هذا الحوار لصالحها، فقد تستثمر ذلك لتشكيل تكتل دولي جديد يدعم استقرار الدولة ويحد من الإغراق الخارجي في الحرب.

5.ما الذي تعنيه هذه التطورات على أرض الواقع؟
• استرداد المبادرة السياسية: مشاركة السودان الفاعلة في القمم وتحالفاته الجديدة تعيده كصانع قرار، لا كضحية نزاع فقط.
• عزلة تمرد الدعم السريع: مع تزايد الإدانات الإقليمية ودعوات التصنيف كمنظمة إرهابية، تضيق الخيارات أمام داعمي الدعم السريع، سواء عبر التمويل أو التغطية السياسية.
• تمهيد لمحاسبة: الزخم الأفريقي والعربي يمكن أن يُترجَم إلى مبادرات قانونية أو تحقيقات أو عقوبات، إذا نجحت الخرطوم في تأمين الدعم الدولي الكافي.
• إعادة ضبط السردية العالمية: من “تمرد داخلي” إلى “خطر إقليمي بتدخل خارجي”، يشتد الخطاب السوداني لتسليط الضوء على البُعد الدولي لصراعه، ما يعزز من شرعية مطالب الدولة وإجراءاتها.

6.تحديات لا تزال أمام الخرطوم رغم المكاسب، لا يزال الطريق محفوفًا بالتحديات:

• ترجمة الدعم إلى قرارات فعالة: الدعم الأفريقي أو العربي يجب أن يتجاوز الكلمات إلى أفعال: مراقبة الحدود وحركة الذهب، تقييد التمويل والمرتزقة، دعم المحاسبة والمحاكمات.

• الحفاظ على الوحدة الداخلية: تعبئة عسكرية كبيرة وتصعيد دولي قد يثير مخاطر استقطاب داخلي إذا لم تُبنى استراتيجية سياسية شاملة.

• المناورة مع المنافسين الإقليميين: الإمارات وقوى أخرى قد تحاول العودة إلى اللعبة بنفوذ متجدد، ويجب أن يكون لدى الخرطوم خطة دبلوماسية واضحة للتعامل مع اي ارتدادات.

• استدامة الدعم: الدعم من بعض الدول يعتمد على مصالح مؤقتة، ومن المهم أن يُحوّل إلى شراكات استراتيجية طويلة الأجل ومصالح مستدامة.
الخلاصة
ما نشهده اليوم ليس مجرد سلسلة من التحركات الانتصارية أو اللقاءات الدبلوماسية، بل مرحلة تحول مهمّة: الخرطوم تستعيد المبادرة. من كينشاسا إلى محاور القتال، ومن التحالف مع السعودية إلى المناورات الإماراتية، يبني السودان استراتيجيته على مزيج من القوة العسكرية والدبلوماسية الذكية والإعلامية بسند شعبي قوي . إن نجحت في تثبيت هذا التوجه، فقد تعيد تشكيل شكل النزاع وتمهّد لحقبة جديدة تضع فيها الدولة مكانتها في قلب الإقليم، وليس كطرف منقسم أو ضعيف.
الزخم الحالي الذي تحقّقه الخرطوم — من قمم أفريقية إلى انتصارات ميدانية ومن تحالفات مع الرياض إلى مواجهة مناورات أبوظبي — ليس صدفة، بل نتيجة استراتيجية متكاملة. إذا أحسن السودان التعبئة على هذا المنوال، وداوم على فاعليتها يمكنه أن يحوّل لحظة عابرة من الضغط الدولي إلى عملية إعادة بناء استراتيجية تمنحه موطئ قدم أقوى على الصعيدين الإقليمي والدولي. في نهاية المطاف، ما يجري ليس فقط صراعًا مسلحًا داخليًا، بل صراع لتثبيت مشروع الدولة السودانية القادرة على استعادة سيادتها، ضامنًا بذلك مستقبلًا أكثر استقرارًا وتشكيلًا بعيدًا عن التمرد والتمويل الخارجي المهدِّد لوحدتها وأمنها القومي.
—————
١٧ نوفمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!