
ظلت الخرطوم و لاتزال تمثل قلب السودان النابض و عقله المفكر سياسياً و اجتماعياً و ثقافياً و اقتصادياً و عكسرياً و امنياً طوال تاريخه القديم و الحديث، فالخرطوم و التي نشأت جغرافيا في عمق البلاد ، وعلى ضفاف ملتقى النيلين، وُلدت كمدينةً تضج بالحيوية و النشاط و تختصر جمال البلاد وتنوعها وثراءها الثقافي. ولطالما كانت رمزًا للوطنية و التأريخ وموطنًا للأحلام.
لم تكن الخرطوم يومًا مجرد مدينة عادية؛ بل كانت دائمًا رمزًا لوحدة السودان وعزته ومرآةً لروحه النابضة بالحياة، حيث تلاقت عندها الأمواج الهادرة للنيلين لتروي حكاية شعب لا يعرف الانكسار. لذا كان طبيعياً ان يتغنى بالخرطوم الفنان و المطرب العملاق سيد خليفة و من كلمات ابراهيم رجب بواحدة من أجمل وأخلد الأغاني السودانية وأكثرها عمقًا في وجدان الشعب لحناً و معنىً :
يا الخرطوم يا العندي جمالك جنة رضوان
طول عمري ما شفت مثالك في أي مكان
أنا هنا شبّيت يا وطني
زيك ما لقيت يا وطني
في وجودي أريدك وغيابي
يا وطني يا بلد أحبابي.
هذه الكلمات لا تصف جمال الخرطوم فحسب، بل تعبّر عن عمق الانتماء لها، لتصبح العودة إليها بعد المحنة التي مرت بها عنوانًا للأمل وبداية لنهضة جديدة تعيد للعاصمة و للبلاد مجدها المفقود و كرامتها الجريحة.
هذه الخرطوم التي أحبها السودانيون وتعلقوا بها، وجدت نفسها فجأة ساحة لمعركة طاحنة صبيحة 15 أبريل 2023م، حين اجتاحتها الحرب التي لم تبقِ ولم تذر، فدمرت بنيتها التحتية ومزقت نسيجها الاجتماعي، وجعلت الحياة فيها أشبه بالكابوس.
ما حدث في الخرطوم لم يكن دمارًا عشوائيًا، بل تدميرًا ممنهجًا استهدف كل مقومات الحياة؛ فقد ضربت الحرب محطات الكهرباء والمياه، والمرافق الصحية والتعليمية، والطرق العامة التي تحولت إلى مسارات للركام. كما تعرضت الأعيان المدنية والمؤسسات الحكومية والخاصة لأضرار جسيمة، في خطة واضحة من مليشيا الدعم السريع لتحقيق أهداف استراتيجية أبرزها دفع السكان للتهجير والنزوح قسرًا، وإفساح المجال للنهب المنظم، بما يتماشى مع أهداف مرسومة سعت لإخضاع المدينة عبر تجويعها وترويعها وتدمير أساسيات بقائها.
مع استعادة الجيش لزمام المبادرة وطرد المليشيا من قلب العاصمة، عاد الأمل ليحوم فوق الخرطوم، وبدأ بعض المواطنين في العودة رغم كل الصعوبات. إلا أن أصواتًا إعلامية و أقلاماً صحفية برزت تدعو لتأجيل عودة الأهالي، بحجة أن الخرطوم ما تزال غير صالحة للعيش في ظل تفشي الأمراض وانعدام الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه وانتشار الدمار، بل إن بعضها ذهب حد الدعوة لإغلاق المدينة أمام عودة سكانها لسنوات طويلة بحجة الحاجة لإعادة تخطيطها وبنائها بالكامل.
ورغم وجاهة المخاوف الصحية والخدمية التي تثيرها هذه الدعوات، فإنها تحمل في طياتها تهديدًا خطيرًا للمعنويات الوطنية؛ فهي تنتقص من الشعور الجمعي بالنصر على المليشيا، وتحبط المواطنين، وتعطي انطباعًا بأن أهداف التهجير التي سعت لها المليشيا قد تحققت فعليًا، وتكرس لفكرة الخرطوم كمدينة أشباح بدلًا من كونها عاصمة نابضة بالحياة.
إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ في صمت البيوت الخالية، بل يبدأ مع عودة الناس إلى مدينتهم وبدء حياتهم من جديد. عودة المواطنين للخرطوم هي التي تكشف حجم الأضرار بدقة، وتخلق ضغطًا إيجابيًا على الدولة ومؤسساتها للإسراع في إصلاح الخدمات وتوفير الاحتياجات الأساسية. والأهم أن عودة الأهالي هي التي تبث الحياة في شوارع الخرطوم وأسواقها وأحيائها، وتحميها من التعديات والفوضى، وتحولها من ساحة حرب إلى ميدان إعمار و هي ضرورة لا تحتمل التأجيل للبدء في ملحمة البناء و التعمير.
و التاريخ يثبت، أن أعظم الانتصارات على الدمار هي تلك التي تحققها الشعوب بإرادتها لا بالانتظار؛ فألمانيا التي مزقتها الحرب العالمية الثانية استطاعت، بخطة مارشال وإصرار شعبها، أن تعيد بناء برلين بشكل أفضل مما كانت عليه. واليابان حولت فاجعة هيروشيما وناجازاكي إلى انطلاقة جعلتها عملاقًا اقتصاديًا. ورواندا التي خرجت من الإبادة الجماعية استطاعت في عقدين فقط أن تصبح من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا. كل هذه التجارب أكدت أن مقاومة الدمار تبدأ من عودة المواطنين وبدء معركة البناء بأنفسهم. ان الشعوب و الانظمة الحرة و الواعية ذات الارادة و العزيمة يمكنها ان تحول ازماتها الى انتفاضة و نهضة في مسار الحضارة و التقدم و الرقي بالانسان و قيمته.
لا يوجد توقيت مثالي مطلق للعودة بعد الحروب؛ بل تبدأ العودة متى ما تحقق الحد الأدنى من الاستقرار الأمني بزوال التهديد المباشر. أما التأجيل الطويل فلا يعني سوى تفاقم الأوضاع الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وفقدان الدافع الجمعي لإعادة الإعمار.
ولتحقيق نهضة حقيقية بعد الحرب، يجب أن تُبنى خطة وطنية شاملة تبدأ بمسح الأضرار بدقة، وتحديد أولويات الإصلاح العاجل، وإطلاق حملات شعبية و رسمية للمشاركة في إزالة الأنقاض وإعادة تأهيل الأحياء. كما يجب تحفيز القطاع الخاص بقوانين مرنة وجاذبة للاستثمار، واستنهاض كل الطاقات الفكرية والمادية محليًا وخارجيًا، واستصحاب جميع المبادرات الوطنية والدولية لتعويض ما فقد. إن تحويل معركة الميدان إلى ميدان للإعمار والبناء والتنمية يتطلب استنفارًا كاملًا للجهود الحكومية والشعبية لا تستثني احدا من ابناء الوطن و مؤسساته.
إن التحدي الأكبر يكمن في قدرة الشعب وقياداته السياسية والعسكرية على تحويل الآلام إلى آمال، وتحويل المعاناة إلى دافع لبناء الخرطوم من جديد بشكل أفضل مما كانت عليه. فالهزيمة الحقيقية لأعداء الوطن تتحقق عندما نعيد إعمار ما دمرته الحرب بأفضل صورة، ونثبت أن إرادة السودانيين لا تنكسر مهما حاول المتربصون.
اليوم، الخرطوم بحاجة إلى جميع أبنائها ليحولوها من ساحة للدمار إلى ساحة للنهوض والأمل، و ليعيدونها زينة للعواصم و مفخرة للبلاد و واحة للامل و المستقبل المشرق، عودتكم هي بداية الحياة، وانتصاركم الحقيقي هو بناء مدينتكم لتكون أجمل وأقوى. معًا نستطيع أن نعيد للخرطوم مكانتها كرمز للسلام والتنمية، ونثبت للعالم أن الشعوب العظيمة وحدها تعرف كيف تحوّل الألم إلى أمل، وأن السودان قادر على أن ينهض من جديد.
الجمعة 4 يوليو 2025م