
يتحسر الكثيرون علي الحالة التي انحدرت إليها الخدمة المدنية في السودان وهو انحدار لايكشف عن المستوي المتردي للأداء الحكومي وحده وانما يمتد اثره السلبي إلي دولاب الدولة بشكل عام.
فالخدمة المدنية هي المؤسسة الأكبر في منظومة مؤسسات اي دولة ، فإذا اعتراها التدهور تعطلت مصالح الناس وتعرقلت التنمية وتبددت أدوات العمل المكتبي من مبان واثاثات ووسائل نقل واتصال ، وضاعت قيمة الوقت وتفشت اللامبالاة والمحسوبية واختلت معايير الكفاءة وهوت المهارات إلي اسفل سافلين.
ولكي نقارن اوضاع الخدمة المدنية التي نعايش تدهورها كل يوم جديد – بما كانت عليه في بواكير سني ما بعد الاستقلال – أطرح عليكم نموذجا إداريا كان عاديا في تلك الايام لكنه اليوم من الطلاسم بالنسبة لفهم وسلوك وخيال من تعج بهم – اليوم – مكاتب الدولة من أعلي سلم الوظائف إلي ادناها.
كتب المرحوم حسن دفع الله [ 1924 – 1974 ] في مؤلفه :”هجرة النويين” الذي صدر بالإنجليزية عام1975 عن العمليات الإدارية التي تولاها إبان تقلده مسؤولية ترحيل أهالي حلفا إلي منطقة خشم القربة ، فقال :
(عندما قررت مصر إقامة خزان السد العالي عند اسوان ، لفتت أنظار العالم بهذا المشروع المدهش تصميما وحجما وتكلفة وفائدة ، لكن آثاره الضارة لم تسترع أنظار أحد. فالبحيرة التي خلقها الخزان كانت ذات أثر مدمّر علي كل مناطق النوبة المصرية وامتد أثرها إلي مسافة 15٠كيلومتر داخل أراضي السودان.
( وباعتباري مفتشا لمركز وادي حلفا ثم – في وقت لاحق – مسؤولا عن ترحيل سكان مدينة وادي حلفا وقراها إلي منطقة التهجير بشرق السودان ، فقد اُلقي علي عاتقي كل ما يتصل بهذ العمل من كافة وجوهه المادية والإدارية والإنسانية. ولأنني لم أجد من السوابق مايعينني علي أداء مسؤولياتي تلك ، فقد كان عليّ أن أعتمد علي خيالي وعلي الحالة المعنوية للسكان . وانطلاقا من حقيقة انني عشت بين ظهراني أهالي حلفا مدة مقدّرة ، فقد تمكنت من التعرف عليهم بصورة جيدة وقد ساعدني ذلك كثيرا في تقييم مختلف الأوضاع وتحديد القضايا واتخاذ القرارات.)
ويتحدث حسن دفع الله عن المادة التي جمعها حول أرض النوبة وأىساليب حياة النوبيين وحياتهم وعاداتهم وطبيعة أرضهم واقتصادهم المحلي فيقول :
( وقد جمعت هذه المادة أثناء إقامتي في وادي حلفا وهي في زعمي تحتوي علي معلومات أولية ذات قيمة عن منطقة النوبة المفقودة. أما موضوع التهجير ومعضلاته وكيفية تعمير منطقة الإسكان الجديدة بخشم القربة فقد جمعتُ مادته بعناية من صور التقارير الشهرية التي كنت أبعث بها إلي لجنة التوطين بالخرطوم حول الأحوال في حلفا ، ومن صور وقائع كل الإجتماعات المهمة التي تعقد في كل من الخرطوم وحلفا . وبالإضافة إلي ذلك فقد كانت في حوزتي سجلاّت كاملة لكل تقارير الإحصاءات السكانية والمسوحات الإجتماعية التي أٌجريت بالمنطقة.
.. واخيرا وليس آخراً ، اعتمدتُ علي ماسجلتُه من معلومات في مفكرتي الخاصة.
ثم يقول – وهذا بيت القصيد -:
(إذا وضعنا في الاعتبار الوقت الذي اتاحته اتفاقية مياه النيل لتنفيذ خطط إعادة التوطين وترحيل أهالي حلفا إلي موطنهم الجديد والمستوي الممتاز والكفاءات العالية التي امتاز بها من انجزوا هذا العمل، فإن ذلك يعد مفخرة للجهاز الاداري للحكومة. ويكفي هنا أن اذكر انه – خلال فترة ثلاث سنوات – تم بناء خزان مكتمل تتفرع منه شبكة ري كاملة ، كما تم تخطيط كل القري ومدينة حلفا الجديدة بمستوي لا تضارعه اي مدينة سودانية اخري . وفي ذات الوقت تمت تصفية الأملاك الثابتة وتم ترحيل كافة السكان بممتلكاتهم المنقولة بسلام قبل ان تغمر المياه مدينة وادي حلفا وقراها إلي الأبد.)
وبعد…
كان هذا نموذجا واحدا من بين آلاف الإنجازات الفذة التي عرفتها الخدمة المدنية في بلادنا قبل مايزيد عن نصف قرن من الزمان. فانظر يا راعاك الله إلي كيف كان يفكر ويخطط ويبرمج قادة الخدمة المدنية ثم انظر إلي مستوي الأداء الرفيع الذي كان تضطلع به الأجهزة التنفيذية للدولة يومئذ ، ثم تمعن فيما آلت إليه الاٌمور الآن .لا شك أن البصر سينقلب إليك خاسنا وهو حسير.
رحم الله د. عبد المطلب الفحل صاحب مسرحية ” التمر المسوّس” التي وثّقت بعد ذلك لتدهور الخدمة المدنية التي أكلت بنيتها – في زعمه – دابة الأرض المسمّاة (الأرضة) او إن شئت ( السوسة)