الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

الحلقة الرابعة من سلسلة : البحر الأحمر ساحة الصراع ومحط التنافس الإقليمي والدولي

البحر الأحمر ساحة الصراع و محط التنافس الإقليمي و الدولي (4_5)

من يتحكم في البحر الأحمر؟ خريطة النفوذ الدولي ومستقبل السيادة الإقليمية (4)

د. اسامة محمد عبدالرحيم

على سواحل هذا المسطح البحري الضيق نسبيًا، يدور صراع خفي حينًا، ومكشوف حينًا آخر، لكنه بالغ التأثير في تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية.

لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر مائي يربط الشرق بالغرب، بل تحوّل إلى مساحة جيوسياسية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى، وتتشابك عنده خطوط السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والطاقة، والأمن، والسيادة، والنفوذ.

في هذه السلسلة من المقالات، نفتح نافذة لفهم التحولات العميقة في أمن البحر الأحمر، وكيف انتقل من كونه ممرًا تجاريًا إلى ميدان صراع مفتوح، تمهيدًا لتحليل أثر النزاعات القديمة والمستمرة، وعلى رأسها الحرب الدائرة في السودان، في إعادة تشكيل معادلات الاستقرار والسيطرة في هذا الإقليم الاستراتيجي.

المقدمة

في عالم تسوده الصراعات المركّبة والممرات الاستراتيجية، بات البحر الأحمر أكثر من مجرد طريق بحري. إنه مساحة (أمنية – اقتصادية – استخباراتية) تتقاطع عندها مصالح الدول الكبرى، وتتصارع فيها القوى الإقليمية الطامحة إلى النفوذ.
من قناة السويس شمالًا إلى باب المندب جنوبًا، ومن شواطئ السودان ومصر إلى سواحل اليمن والصومال، تتحرك جيوش وبوارج ومكاتب استخبارات ومشاريع موانئ، في سباق لم يعد خفيًا.
هذا المقال يحاول أن يجيب بوضوح على الأسئلة (من يتحكم في البحر الأحمر اليوم؟)، و(كيف تُرسم خرائط السيادة فيه؟)، و(هل ما تزال الدول المطلة عليه صاحبة القرار أم أن السيطرة الحقيقية أصبحت في يد فاعلين من خارج الإقليم؟).

البحر الأحمر : ساحة تنافس لا تهدأ

يمر عبر البحر الأحمر ما يفوق 12% من التجارة العالمية، وقرابة 30% من صادرات النفط الخليجي، ويُعتبر الطريق البحري الأسرع بين آسيا وأوروبا، ويمثّل منفذًا استراتيجيًا للدول غير الساحلية في القرن الإفريقي.
هذا الموقع جعله نقطة جذب لقوى دولية كبرى، لم يعد وجودها فيه مؤقتًا أو عسكريًا فقط، بل امتد إلى التحكم في البنية التحتية، شبكات الموانئ، البيانات، والكابلات البحرية.

القوى الدولية الفاعلة في البحر الأحمر

1) الولايات المتحدة الأمريكية:

تحتفظ واشنطن بقاعدة “ليمونيه” في جيبوتي، وهي القاعدة العسكرية الأمريكية الوحيدة الدائمة في إفريقيا، وتُعد مقرًا رئيسيًا للعمليات الجوية والبحرية التابعة للقيادة الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM).

تنفذ القوات البحرية الأمريكية دوريات منتظمة عند مضيق باب المندب، وتراقب التحركات الإيرانية والروسية، وتعمل على تأمين الملاحة ضد التهديدات الحوثية والقرصنة.

تعتمد على شراكات ثنائية مع دول المنطقة، وتُقدّم دعمًا استخباراتيًا ولوجستيًا عالي المستوى، خصوصًا مع السعودية ومصر وإسرائيل، ضمن إطار إستراتيجية أوسع تمتد من المحيط الهندي إلى شرق المتوسط.

تهدف واشنطن إلى منع تحوّل البحر الأحمر إلى نقطة اختراق لصالح خصومها الجيوسياسيين، خاصة الصين وروسيا، مع الحفاظ على حرية الملاحة كجزء من أمن الاقتصاد العالمي.

2) الصين:

أنشأت أول قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في جيبوتي عام 2017، وتُستخدم لتأمين المصالح الصينية في المنطقة، وتوفير الدعم اللوجستي لأسطولها البحري، وحماية طرق التجارة ضمن مبادرة (الحزام والطريق).

تستثمر بكثافة في البنية التحتية للموانئ والسكك الحديدية في القرن الإفريقي (خاصة في إثيوبيا، جيبوتي، كينيا)، وتعمل على تكوين نفوذ اقتصادي يُترجم لاحقًا إلى نفوذ سياسي وأمني ناعم.

تتبنى الصين استراتيجية (النفوذ الصامت) دون مواجهة مباشرة مع واشنطن، وتسعى لتقديم نفسها كبديل تنموي غير استعماري لشعوب وحكومات المنطقة.

3) روسيا:

تطمح لإقامة قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان، وقد وقّعت اتفاقًا مبدئيًا (لم يدخل حيز التنفيذ بعد) مع السودان عام 2019 ، يتيح لها إنشاء مركز لوجستي يُستقبل فيه أربع سفن حربية، بينها غواصات نووية.

ترى موسكو البحر الأحمر بوابة استراتيجية للوصول إلى إفريقيا جنوب الصحراء و كذلك الى الشرق الافريقي و منطقة اثيوبيا و ما جاورها، ونقطة ارتكاز بين المتوسط والخليج، ومنصة ضغط على النفوذ الغربي في القارة.

توظّف أدوات متنوعة من بينها شركات الأمن الخاص (مثل فاغنر سابقًا) والدبلوماسية العسكرية، وتركّز على التحالف مع الأنظمة المضادة للغرب أو الباحثة عن توازنات جديدة في علاقاتها الدولية.

4) الاتحاد الأوروبي :

يمتلك الاتحاد الأوروبي مهمة بحرية دائمة في البحر الأحمر باسم عملية أتلانتا، تابعة لقوة (NAVFOR)، تهدف لمكافحة القرصنة وحماية سفن برنامج الغذاء العالمي.

يقدّم مساعدات تنموية وأمنية لدول القرن الإفريقي، خاصة الصومال، ويعمل على تقوية المؤسسات الأمنية والاقتصادية لمكافحة التهديدات غير التقليدية كالإرهاب والهجرة غير الشرعية.

لا يتبنى الأوروبيون مقاربة صدامية، بل يعتمدون على القوة الناعمة، والتنسيق المتعدد الأطراف، ودعم الاستقرار عبر المؤسسات الإقليمية.

القوى الإقليمية… الطموحات المتقاطعة

1) الإمارات العربية المتحدة :

تنتهج الإمارات سياسة بحرية هجومية تعتمد على توسيع نطاق سيطرتها عبر الموانئ، وتُعد (موانئ دبي العالمية) ذراعها الجيو-اقتصادي الأبرز، حيث تدير أو تسعى لإدارة موانئ في جيبوتي، مصر (العين السخنة) ، ارض الصومال (بربرا) ، اليمن (عدن، المخا) ، وبورسودان.

لديها تموضع عسكري ولوجستي في عصب (إرتيريا)، وقد استُخدمت كقاعدة عمليات ضد الحوثيين، كما أنها تدعم فصائل محلية في اليمن وشرق السودان لتأمين مصالحها.

توظف شركات الأمن الخاص مثل (بلاك شيلد) لتعزيز نفوذها، وتتحرك في البحر الأحمر كفاعل مستقل عن الخليج، يتجاوز أحيانًا الموقف السعودي.

2) المملكة العربية السعودية

تُعد السعودية القوة الأكبر في الشطر الغربي للبحر الأحمر، بعد أن أحكمت سيطرتها على جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما يضمن لها إشرافًا مباشراً على المضيق المؤدي إلى خليج العقبة.

أطلقت في عام 2020 مبادرة (مجلس الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن) ، كأداة سياسية وأمنية للتنسيق الإقليمي ومنع الاختراقات الخارجية.

تدمج المملكة العربية السعودية رؤيتها البحرية ضمن (رؤية 2030) ، حيث يُمثل البحر الأحمر واجهة حيوية لمشروعاتها الكبرى مثل نيوم وميناء الملك سلمان في ضباء.

3) مصر:

تُعد مصر حجر الزاوية في الأمن البحري للبحر الأحمر، وتُشرف من خلال قناة السويس على واحد من أهم الممرات البحرية العالمية.

لديها أسطول جنوبي متمركز في قاعدة (سفاجا) وقاعدة (برنيس البحرية) الضخمة، التي تُعد من أكبر القواعد في إفريقيا، وتُتيح لها فرض رقابة على الملاحة جنوبًا.

تنظر مصر بعين الريبة لأي تواجد إقليمي أو دولي غير منسق معها، خصوصًا في سواحل السودان وإريتريا واليمن، وتعتبر نفسها الحارس الطبيعي للممرات البحرية في الشمال.

4) تركيا :

حاولت تعزيز نفوذها في البحر الأحمر عبر مشروع تطوير و اعادة ترميم و تعمير جزيرة سواكن في السودان عام 2017، من ضمن عدة اتفاقيات اقتصادية و صناعية اهملت و لم تفعل بعد سقوط نظام البشير في السودان (نظام الانقاذ) .

رغم التجميد للمشروع، تواصل تركيا نشاطها الاستخباراتي والاقتصادي، خصوصًا عبر وكالة (تيكا) ومنظمات الإغاثة، وتحافظ على اتصالات مع فصائل سياسية وإسلامية ذات نفوذ في السودان واليمن والصومال.

تهدف أنقرة لتأمين موطئ قدم في المنطقة ضمن مشروع (تركيا الكبرى) الذي يشمل المحيطات المفتوحة.

5) إيران :

تعتمد على أذرع غير مباشرة أبرزها الحوثيون، لتأمين حضورها البحري غير التقليدي عبر (حرب الوكالة) ، باستخدام القوارب المفخخة، الألغام، والمسيّرات.

تسعى لخلق تهديد دائم عند مضيق باب المندب، وهو ما يجعلها فاعلًا رئيسيًا في أي مفاوضات أمنية بحرية إقليمية.

تتهمها القوى الغربية باستخدام التهريب البحري لدعم شبكاتها في إفريقيا، خصوصًا في السودان وإثيوبيا وأوغندا.

6) إسرائيل :

ترى في البحر الأحمر عمقًا استراتيجيًا لأمنها القومي، وتُولي اهتمامًا بالغًا بمضيق باب المندب وخط الملاحة المؤدي إلى ميناء إيلات.

يُعتقد أنها تمتلك وجودًا استخباراتيًا غير معلن في جزر إرتيرية مثل دهلك، كما تحتفظ بعلاقات أمنية مع بعض الدول المجاورة للبحر الأحمر لتأمين مساراتها.

تدعم العمليات البحرية المشتركة مع الولايات المتحدة، وتراقب بقلق تصاعد النفوذ الإيراني والحوثي في الجنوب.

أدوات السيطرة : من الموانئ إلى الكابلات

لم تعد السيطرة على البحر الأحمر تقتصر على الانتشار العسكري التقليدي أو القواعد البحرية الدائمة، بل اتخذت أشكالًا أكثر تنوعًا وتعقيدًا، تتداخل فيها أدوات ناعمة وصلبة، ظاهرة وخفية، تشمل:

1) التحكم في تشغيل الموانئ والمرافئ التجارية:

باتت الموانئ البحرية تمثّل جوهر النفوذ البحري، ليس فقط كمنصات لوجستية وإنما كبؤر سيطرة اقتصادية وأمنية وسيادية.

تقوم بعض القوى، مثل الإمارات، عبر شركات مثل (موانئ دبي العالمية و ابوظبي بورتس) ، بإدارة وتشغيل موانئ حيوية على البحر الأحمر (جيبوتي، بربرة، المخا، عدن سابقًا، مصر العين السخنة) ،و تحاول الاستحواذ على موانئ اخرى منها بورسودان .

تمنح عقود الامتياز الطويلة الأمد للدول المشغّلة القدرة على فرض شروط تجارية واستراتيجية، وتُحوّل الميناء إلى منصة استخبارية وخط دفاع بحري متقدم.

2) امتلاك شبكات الاتصالات البحرية والكابلات الرقمية :

تُعد كابلات الألياف البصرية البحرية شريان الحياة للاقتصاد الرقمي الحديث، حيث يمر أكثر من 17 كابلًا بحريًا من المحيط الهندي إلى أوروبا عبر البحر الأحمر.

تسعى قوى كبرى مثل الصين والولايات المتحدة وفرنسا للتحكم في مواقع الإنزال الرئيسية لهذه الكابلات، ما يُمكّنها من رصد المعلومات وتوجيه البيانات والتحكم في الإنترنت بالمنطقة.

على سبيل المثال، تدير الصين عبر شركاتها مثل (هواوي مارين) بعض مشروعات الكابلات التي تربط إفريقيا بآسيا وأوروبا، بينما تدير فرنسا وأميركا مشروعات مقابلة، ما يُدخل البحر الأحمر ضمن حرب سيبرانية خفية.

3) استخدام الأقمار الاصطناعية والمراقبة الفضائية:

تعتمد الدول المتقدمة على الأقمار الاصطناعية العسكرية والتجارية لمراقبة التحركات البحرية، وتتبع السفن، والتجسس على الأنشطة اللوجستية في الموانئ والمضائق.

توفر هذه التقنية قدرة استباقية للتنبؤ بالتحركات المشبوهة، وتدعم عمليات استهداف الأهداف البحرية الدقيقة، خاصة في النزاعات منخفضة الشدة.

إسرائيل، الولايات المتحدة، وروسيا من أبرز الفاعلين الذين يستخدمون هذه التقنية بكثافة في منطقة البحر الأحمر، وقد لوحظ ذلك في عمليات استهداف سفن إيرانية، أو تعقب شحنات السلاح.

4) التموضع الاقتصادي عبر الديون ومشروعات البنية التحتية :

تستخدم بعض القوى الكبرى أدوات الاقتصاد السياسي لفرض السيطرة الناعمة على الدول المطلة على البحر الأحمر، عبر إغراقها بالديون أو ربطها بمشروعات بنية تحتية ضخمة.

الصين نموذج بارز لذلك، من خلال مشاريع (الحزام والطريق) ، إذ تساهم في بناء موانئ وسكك حديدية ومنشآت لوجستية، مع شروط مالية مرهقة، تؤدي في أحيان كثيرة إلى تحويل الأصول إلى ملكية أو تشغيل صيني مباشر (كما حدث في سيريلانكا).

يُعد هذا النوع من السيطرة اقتصاديًا في الشكل، لكنه استراتيجي في العمق، ويمنح الدولة الممولة أدوات تأثير تتجاوز الاقتصاد إلى الأمن والسيادة.

5) توظيف المرتزقة والشركات الأمنية كأدوات غير تقليدية للنفوذ :

تصاعدت في العقدين الأخيرين ظاهرة الخصخصة الأمنية، حيث تستخدم الدول شركات أمنية خاصة لحماية مصالحها البحرية والبرية في المنطقة، بعيدًا عن الأطر القانونية الصارمة للجيوش النظامية.

الإمارات وروسيا من أبرز الفاعلين في هذا المجال، حيث وظفتا شركات مثل (بلاك شيلد) ، و(فاغنر) سابقًا، لتأمين الموانئ، وتدريب القوات المحلية، وتنفيذ عمليات خاصة منخفضة الظهور.

هذه الشركات تؤدي أدوارًا مزدوجة، حيث تعمل على تأمين المنشآت من جهة، واختراق البنية السيادية للدولة المضيفة من جهة أخرى، من خلال التأثير على قرارات الأمن والتسليح والتعيينات.

إن أدوات السيطرة في البحر الأحمر لم تعد تعتمد على (البارجة والرصيف) فحسب، بل باتت تشمل شبكة معقّدة من البنى التحتية، والأنظمة الرقمية، والمشغلين الدوليين، والشركات الأمنية، بما يجعل هذا الممر البحري من أخطر مسارح الصراع الجيوسياسي المركّب في القرن الحادي والعشرين.

مستقبل السيادة الإقليمية في البحر الأحمر

مع اشتداد التنافس الدولي وتزاحم الفاعلين في حوض البحر الأحمر، يبقى مستقبل السيادة الإقليمية معلقًا على ميزان التحولات السياسية، والقدرة على بناء شراكات استراتيجية رشيدة، وتفعيل الإرادة الجماعية للدول المشاطئة. وفي هذا السياق، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السيطرة والسيادة في هذا الممر البحري الحيوي:

1) السيناريو الأول_ استمرار التدويل وتآكل القرار الإقليمي:

في هذا السيناريو، تظل القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) هي الفاعل المركزي في أمن ومصير البحر الأحمر، سواء عبر القواعد العسكرية، أو السيطرة على الموانئ، أو النفوذ السيبراني واللوجستي.

تصبح دول الإقليم، وخاصة الدول الضعيفة أو غير المستقرة (مثل السودان والصومال واليمن)، منصات لوجستية وأمنية تُستخدم من قبل القوى الدولية، دون امتلاك قرارها السيادي الكامل.

تتعاظم النزاعات غير التقليدية، وتشهد المنطقة حروبًا بالوكالة، وتنافسًا على النفوذ عبر أدوات غير رسمية (كالشركات الأمنية، والميليشيات، والفصائل المتحالفة).

يؤدي هذا المسار إلى إضعاف منظومة الأمن الجماعي، ويزيد من مخاطر النزاعات البحرية والبرية المرتبطة بالموانئ، والمضائق، والحدود البحرية.

2) السيناريو الثاني _ تشكل تكتل إقليمي منظم وفعّال :

يُبنى هذا السيناريو على فرضية استعادة الدول الإقليمية لزمام المبادرة، خاصة مصر والسعودية والسودان (في حال تجاوز أزمته الحالية)، عبر تنسيق الأمن البحري، وبلورة رؤية استراتيجية مشتركة.

يُفعّل (مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن) كمؤسسة إقليمية لها هياكل تشغيلية واضحة، ويُطوَّر ليشمل أبعادًا دفاعية، استخباراتية، اقتصادية، وبيئية.

تنشأ آليات دائمة لتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتنسيق بين القوات البحرية، وتوحيد مواقف التفاوض مع الشركاء الدوليين، ما يُحول المجلس إلى جدار حماية سيادي مشترك.

تبنى الشراكات مع القوى الكبرى (مثل أميركا والصين) على قاعدة المصالح المتبادلة لا التبعية، مع اشتراط احترام السيادة الوطنية والشفافية في إدارة الموارد والموانئ.

يؤدي هذا السيناريو إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي، واحتواء التدخلات الخارجية، وتحويل البحر الأحمر من ساحة صراع إلى فضاء تنمية وتكامل.

3) السيناريو الثالث (الضمني) _ التنافس الإقليمي المتعدد المسارات :

قد تفشل الدول المشاطئة في توحيد موقفها نتيجة الانقسامات الجيوسياسية، والصراعات الداخلية، والتحالفات المتضاربة، ما يُؤدي إلى استمرار (حالة السيولة الاستراتيجية) .

تتحرك كل دولة منفردة وفق مصالحها الضيقة: الإمارات تُوسع نفوذها الاقتصادي، السعودية تركز على تأمين عمقها، مصر تحمي قناة السويس، تركيا وإيران تسعيان لمكاسب استخباراتية أو مذهبية.

يؤدي غياب التنسيق إلى تضارب في المشاريع والمواقف، وفقدان القدرة على فرض أجندة جماعية، ما يُفتح الباب أمام القوى الخارجية لتعزيز حضورها عبر تجزئة المنطقة وتوظيف الانقسامات.

يترتب على ذلك تفكك المنظومة الأمنية، وازدياد الهشاشة السيادية، مما يُعرّض المنطقة لمزيد من التهديدات من الفاعلين غير الحكوميين (القرصنة، الإرهاب البحري، تهريب السلاح والبشر).

إن مستقبل السيادة في البحر الأحمر لن يُحسم بالقوة العسكرية فقط، بل بمدى قدرة دول الإقليم على التنسيق المشترك، والتغلب على الخلافات، وبناء مؤسسات فاعلة تحمي مصالحها من الداخل لا بالوكالة عن الخارج. إن الخيار ما بين (بحر تُديره العواصم الأجنبية) أو (بحر يحرسه أهله) سيبقى مرهونًا بالإرادة السياسية والوعي الاستراتيجي لقادة الإقليم.

السودان: بين القوة الكامنة والضعف الهيكلي

يمتلك السودان عناصر قوة استراتيجية كامنة تجعله أحد أهم الفاعلين الطبيعيين في معادلة البحر الأحمر، لولا ما يعانيه من ضعف هيكلي مزمن في مؤسسات الدولة، واضطراب سياسي مستمر، وغياب للرؤية الاستراتيجية البحرية. ويمكن تلخيص عناصر المشهد كالتالي:

1) عناصر القوة الكامنة و تتمثل في:
أ. الموقع الجيوسياسي: حيث يحتل السودان موقعًا متوسطًا على الساحل الغربي للبحر الأحمر، يمتد حوالي 750 كيلومتر من السواحل، ويقع في قلب الممرات البحرية الدولية بين باب المندب والسويس.
ب. الثروات البحرية : يتمتع السودان بثروات طبيعية هائلة، تشمل مناطق صيد غنية، ومخزونات محتملة من الغاز والنفط في المياه الإقليمية، وموقع إشراف مباشر على الجرف القاري الغني.
ج. الموانئ والبنية التحتية البحرية: يحتضن عددًا من الموانئ الاستراتيجية، أبرزها ميناء بورتسودان، إضافة إلى ميناء سواكن، وبشائر و هيدوب، وسواحل لم تُستثمر بعد في الجنوب (عقيق وترنكتات ، و كذلك محمد قول و اوسيف).
د. العمق البشري والعسكري: يمتلك السودان كفاءات بشرية ومهنية ذات خبرات بحرية، إلى جانب إرث في الصناعات الدفاعية والملاحية، يمكن إعادة توظيفه ضمن مشروع قومي متكامل.

2) مكامن الضعف الهيكلي و يمكن تلخيصه في الآتي :
أ. الهشاشة السياسية: تتسبب الأزمات المتكررة، والانقلابات، والحروب الأهلية، والانقسامات النخبوية في غياب استقرار القرار السيادي، ما يُفقد السودان القدرة على إدارة ملفه البحري بفاعلية.
ب. الاقتصاد الريعي وضعف التخطيط: الاقتصاد السوداني غير منتج، وتعتمد الدولة على الموارد الآنية (كالذهب والتحويلات)، مما يجعل البحر الأحمر ملفًا غير مستوعَب ضمن الخطط التنموية الشاملة.
ج. التغلغل الخارجي: بسبب الضعف الداخلي، أضحت الموانئ والمناطق الساحلية مسرحًا لتنافس القوى الإقليمية والدولية، عبر عقود تشغيل غامضة، وتدخلات عسكرية أو استخبارية غير شفافة.
د. غياب المؤسسات البحرية الوطنية المتكاملة: لا توجد حتى الآن هيئة وطنية فاعلة متخصصة في أمن وتنمية البحر الأحمر، ما يُحدث فراغًا في التنسيق بين الدفاع، الاقتصاد، الأمن، والبيئة البحرية.

3) استعادة الدور السوداني – مقومات الرؤية المطلوبة:
حتى يستعيد السودان موقعه المستحق في البحر الأحمر، فإن الأمر يتطلب بلورة رؤية استراتيجية وطنية شاملة للبحر الأحمر، تتسم بالواقعية والطموح، وتستند إلى مرتكزات واضحة:
أ. تحديد المصالح العليا للسودان في البحر الأحمر:
_ تأمين سيادة الدولة على مياهها الإقليمية.
_ حماية الموانئ والثروات البحرية من العبث أو الاستغلال غير المتوازن.
ضمان حق المرور الآمن والمستقل عبر المياه الوطنية، وربطه بالسيادة التجارية والاقتصادية. استخدام البحر كرافعة استراتيجية للتكامل الاقتصادي مع الداخل ومع الجوار الإفريقي والخليجي.
ب. وضع أهداف قومية في الأمن والتنمية البحرية:
تطوير الأسطول البحري (العسكري والمدني). إنشاء مراكز مراقبة بحرية حديثة. تعزيز الصناعات البحرية الوطنية (سفن، صيانة، صيد، حاويات).
إطلاق مشروعات تنموية متكاملة على الشريط الساحلي، تشمل المناطق الحرة، ومراكز الطاقة، ومرافئ جديدة. ج. إعادة ضبط الشراكات الإقليمية والدولية: إعادة مراجعة جميع عقود تشغيل الموانئ والامتيازات البحرية على قاعدة الشفافية والعدالة السيادية.
بناء شراكات استراتيجية قائمة على الندية والمصلحة الوطنية، لا على التبعية أو الحاجة الظرفية. الانخراط الذكي في التكتلات البحرية مثل (مجلس البحر الأحمر) بما يحقق مصالح السودان لا مصالح غيره فقط.
د. رسم خطوط حمراء للسيادة البحرية :
منع أي تواجد عسكري أجنبي دائم على الأراضي أو السواحل دون تفويض دستوري وتوافق وطني. عدم تسليم إدارة أي ميناء استراتيجي لطرف أجنبي دون رقابة وطنية مشددة.
_حماية الثروات البحرية ورفض أي شكل من أشكال الاستغلال المنفرد أو الجائر.

إذا لم تُصاغ هذه الرؤية الوطنية بإرادة سياسية سيادية، فإن السودان سيبقى دولة شاطئية لكنها بلا بحر فعليًا؛ تتحكم فيه القوى الأخرى، وتُحوّل موانئه إلى أوراق تفاوض لصالح أطراف خارجية، وتُترك سواحله نهبًا للاختراقات والتهريب والنفوذ الرمادي. كما إن مستقبل السودان في البحر الأحمر لن يُستعاد إلا حين يتحوّل من موقعٍ إلى موقف، ومن جغرافيا إلى استراتيجية.

الخاتمة

إن من يسيطر على البحر الأحمر، هو من يملك مزيجا القوة البحرية، والنفوذ الاقتصادي، والقدرة على التمركز الاستراتيجي والسيطرة عن بُعد. كما ان على دول الإقليم، وعلى رأسها السودان، الانتباه إلى أن التحكم في هذا البحر ليس خيارًا و ترفاً جيوسياسيًا، بل ضرورة وجودية لضمان السيادة والتنمية والاستقرار، وإن معركة البحر الأحمر ما تزال مفتوحة و لم تحسم بعد ، ومن لا يدخلها بمشروع سيجد نفسه ساحلًا و هامشا جغرافيا في خريطة الآخرين.

نواصل….

الجمعة 18 يوليو 2025م

  • د. أسامة محمد عبدالرحيم
    عقيد بحري ركن متقاعد
    دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)

اترك رد

error: Content is protected !!