الرواية الأولى

نروي لتعرف

خلاصة الأمر !! / الواثق كمير

الحركة الشعبية شمال: مُعضِلة التفاوض على الترتيبات الأمنية!

د. الواثق كمير

الواثق كمير

kameir@yahoo.com

القاهرة، 10يوليو 2025

كعبِ أخيل السلام والتحول الديمقراطي

تلخصت أطروحة مقالي السابق (سودانايل، 15 يوليو 2025) في: أنَّ الترتيبات الأمنيَّة هي الرَكْ والمَحَك في مُعادلة السَّلام وكعبُ أخيل الانتقال الدِّيمُقراطي، وأنّ حسم أمر الترتيبات الأمنية الشاملة هو مفتاح تحقيق الأمن والاستقرار في كافة أرجاء البلاد، والعودة الآمنة للنازحين واللاجئين إلى ديارهم.وقد أثبتت التجارب السابقة والتطورات السياسية اللاحقة صحة الأطروحة.

وعلى خلفية الخلافات التي نشبت في الأسابيع الأخيرة حول استحقاقات الحركات الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان في توزيع مقاعد السلطة، وفقاً لأحكام الاتفاق والتي ألقت بظلالها على تحالف الجيش مع القوة المُشتركة للحركات المسلحة، خَلَصَ المقالُ أنّ هناك حاجةً ماسةً ومُلحةً لتسريع تنفيذ عملية الترتيبات الأمنية بحُكمِ نصوص الاتفاق. فمن الأهمية بمكان ضرورة تفعيل هذه الترتيبات التي تمهد لعملية تعزيز الجيش الوطني الواحد طالما تم الاتفاق حول إجراءاتها.

بينما سأتناول في هذا المقال المقتضب موقف الحركة الشعبية شمال- قيادة عبد العزيز الحلو فيما يخص قضية الترتيبات الأمنية، من حيث أنّ عدم وتعطيل التفاوض حولها يُعيق عملية تعزيز الجيش الوطني الواحد بل ويُعرقِل أي محاولة جادة للوصول إلى سلام مُستدام. ورغماً عن شُح المعلومات، فسأحاول أيضاً في هذا المقال أن ألقي بعض الضوء على مدى التأثير، من عدمه، لانضمام الحركة الشعبية شمال إلى تحالف “تأسيس” على موقفها من الترتيبات الأمنية.

موقف الحركة الشعبية شمال حِيال الترتيبات الأمنية

طوال مفاوضات الحكومة الانتقالية مع الحركة الشعبية شمال (كوماندر الحلو)، منذ أكتوبر 2019، كان الوفد الحكومي يرغب في يكون موضوع الترتيبات الأمنية المُفضية إلى وقفِ إطلاق النار على رأس الأجندة، بينما رفض وفد الحركة الشعبية وأصرّ على عدم تضمين بند الترتيبات الأمنية في جدول الأعمال. ووضعت الحركة شرطين للتفاوض مع الحكومة، أولهما: أن يكون الهدف الرئيس لهذه المفاوضات هو التوصل إلى إعلان مباديء شامل يحكم العملية التفاوضية، وثانيهما: تحديد ثلاثة مواضيع للتفاوُض وتسلسُلها sequencing، بحيث تبدأ المُفاوضات بملف القضايا السياسيَّة، المُتعلقة بجذور الأزمة السُّودانيَّة (خاصة قضية العلاقة بين الدين والدولة وتقرير المصير)، ومن ثمَّ الملف الإنساني، وأن تنتهي بقضيَّة الترتيبات الأمنيَّة ووقف إطلاق النار الشامل. وفوق ذلك، حتى وإن تم التوصل إلى إعلان مباديء يحكم العملية التفاوضية، فلن تتنازل الحركة عن التمسك بوجود “مُستقِل” للجيش الشعبي خلال الفترة الانتقالية. وللمفارقة، هذا هو ما نص عليه “اتفاق إعلان المباديء” بين رئيس مجلس السيادة ورئيس الحركة الشعبية شمال، في 29 مارس 2021، إذ توصل إلى أنّه “يجب أن تكون عملية دمج وتوحيد القوات عملية متدرجة ويجب أن تكتمل بنهاية الفترة الانتقالية وبعد حل مسألة العلاقة بين الدين والدولة في الدستور”.

ربما من الضرورة أن أذكرّ بعض المعلومات التي تُساعد في  معرِفةِ حقيقة دوافع الحركة الشعبية للتمسك القاطع ببقاء الجيش الشعبي خلال الفترة الانتقالية حتى تطمئن على تنفيذ ما تمَّ الاتفاق حوله في أي اتفاق سلام توقع عليه، وللفوز بفهمٍ أكثر شمولاً لهذا الموقف.

أولاً: في رأيي، أنه بعيدًا عن كونه تعبيراً عن عدائيَّة أو تعنُّت، فإنَّ مصدر موقف الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بشأن الترتيبات الأمنيَّة يرجع تاريخياً إلى عمليَّة استيعاب قُوَّات الأنيانيا بحُكم اتفاقيَّة أديس أبابا، 1972، في الجيش السُّوداني، والتي لاحقاً كانت السبب الرَّئيس في اشتعال الحرب مرَّة أخرى في 1983. فقد كان جون قرنق يرى أن دمج قوات الأنيانيا في الجيش السوداني قبل ضمان تنفيذ الاتفاقية كان خطأً فادحاً لا يمكن تكراره فيما يلي الجيش الشعبي. ففي رأيه أنّ هذا الاستيعاب أضعف موقف السياسيين الجنوبيين وجعلهم لُقمة سائغة لدى الرئيس نميري،  ووفَّر له الفرص لنقض غزل الاتفاقيَّة التي نسجها بيديه.

لذلك، لم تدخل الحركة الشعبية لاحقاً في أي مفاوضات حول الترتيبات الأمنية حتى تم التوقيع على إعلان مشاكوس (2002) الذي كان بمثابة حِزمة من المباديء تحكم العملية التفاوضية. وللمفارقة، كانت الترتيبات الأمنية هي البروتوكول الأول الذي تم التوقيع عليه بعد بروتوكول مشاكوس (25 سبتمبر 2003)، ضمنّ البروتوكولات الستة لاتفاقية السلام الشامل. ثانياً: الجديرُ بالذكر، أنَّ للحركة الشعبيَّة شمال تجربة مريرة مماثلة وماثلة في المنطقتين تدفعها لتوخِّي الحذر قبل الدُخُول في تنفيذ أي ترتيباتٍ أمنيَّة هذه المرَّة. فلم يُفلح بروتوكول الترتيبات الأمنيَّة، في اتفاقيَّة السَّلام الشامل، سواءً في التصميم أو التنفيذ، في معالجة وضع الجيش الشعبي في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق. فوفقاً لشُروط البروتوكول، تمَّ تعريف الجيش الشعبي ككلٍ لا يتجزأ، يتبع إلى جنوب السُّودان، بدون تحديد هُويَّة وأصل المقاتلين، أي ما إذا كانوا ينحدرون من أي من الولايتين. لذا، كان الاتفاق صامتاً تماماً، وخلا من أي إشارة إلى مصير الآلاف من مقاتلي المنطقتين خارج الوحدات المشتركة المُدمجة والمُتمركزة مع وحداتهم الأم بالجيش الشعبي في جنوب السُّودان. ففي ضوء عدم الوفاء بالسُقوف الزمنيَّة للاتفاقيَّة والمُستحقات السياسيَّة للمنطقتين، لكي يتم إكمال عمليَّة الترتيبات الأمنيَّة الشاملة، هدَّدت حُكومة الإنقاذ بنزع سلاح الجيش الشعبي بالقُوَّة، إن لم يتم تسريح قواته أو إعادة انتشارها جنوبا، مما أطلق شرارة الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، في يونيو وسبتمبر 2011، على التوالي. 

ثالثاً: بجانب أنّ موضوع الجيش الشعبي كان بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر بعير الحركة الشعبيَّة شمال، إذ كان أحد قضيتين خلافيتين استراتيجيتين، إضافة لتقرير المصير، وسببٌ رئيس لاستقالة نائب رئيسها حينئذٍ، الفريق عبدالعزيز الحلو، في مارس 2017، مما أفضى إلى الانشقاق المُعلن الذي وقع بين قيادة الحركة في أكتوبر من نفس العام. فقد تضمن نص استقالة القائد عبد العزيز الحلو إشارات، لا تخطئها عين، توجه أصابع الإتهام إلى الأمين العام للحركة المُقال (ياسر عرمان)، ورئيس وفدها المفاوض، بالسّعي للتوصل إلى تسّوية ما مع النظام الحاكم تتضمن تنازلات في الترتيبات الأمنية. وذلك، يعني في نظر الفريق عبد العزيز “تجريد الجيش الشعبي من سلاحه عبر وسيلة إستيعابه فىجيش المؤتمر الوطني، و إنهاء دوره كضامن لتنفيذ أي إتفاق،أو كأداة ضغط لتحقيق التحول الديموقراطي والسلامالعادل.

رابعاً: وللمفارقة، الخلاف حول القضيتين الإستراتيجيتين: مصير الجيش الشعبي وحق تقرير المصير، لم ينشأ بسبب تراكم الخلاف في المواقف داخل القيادة الثلاثية للحركة، بل في حقيقة الأمر يعود إلى 14 عاماً مضت، منذ التوقيع على اتفاقية مالك ــ نافع في 28 يونيو 2011. فعلى حد قول الفريق عبد العزيز، في خطاب الاستقالة “بعد 22 يوم فقط من بداية الحرب الثانية في 6/6/2711، عرضّ عليّ الأمين العام ورئيس الحركة مسودة الاتفاق الإطاري، المسمى نافع/عقار واعترضت عليه بسبب الفقرات الخاصة بالترتيبات الأمنية، لأنها كانت تهدف لاستيعاب الجيش الشعبي في جيش المؤتمر الوطني”. وهذا أيضا ينطبق على حق تقرير المصير، إذ لم يتضمنه الاتفاق الذي مزقه رئيس الجمهورية آنذاك قبل أن يجف الحبر الذي كُتب به. 

هل لاِنخراط الحركة الشعبية في تأسيس” تأثير على موقفها من الترتيبات الأمنية؟

وقعّت الحركة الشعبية شمال، بقيادة الفريق عبد العزيز الحلو، مع مليشيا الدعم السريع وحركات مسلحة كانت ضمنّ الموقعين على اتفاق جوبا، وقوى سياسية ومجتمعية أخرى، على “الميثاق التأسيسي لحكومة الوحدة والسلام”، وعلى مشروع “الدستور الانتقالي لجمهورية السودان لسنة 2025” لتأسيس الدولة السودانية، في 23 فبراير و4 مارس على التوالي بالعاصمة الكينية نيروبي. وبجانبِ هاتين الوثيقتين أعلنّ تحالف السودان التأسيسي (2 يوليو 2025)، عضوية الهيئة القيادية من واحد وثلاثين مقعداً، والمجلس الرئاسي من خمسة عشر عضواً، مع تسمية رئيس الوزراء، فيما زالت “السلطة” التنفيذية وباقي المؤسسات المنصوص عليها في “الدستور الانتقالي” تحت قيدِ التشكيل.

إزاءِ هذا الموقف السياسي الجديد للحركة الشعبية، ثَمَّة سؤال جوهري يُطِل برأسه: ما هو تأثير انخراط الحركة مع مليسيا الدعم السريع في تحالف “تأسيس” على موقفها الثابت من الترتيبات الأمنية. في ظني، أنّ الوقت ما زال مُبكراً للإجابةِ على هذا السؤال إذ أنّ هياكل ومؤسسات حكم هذا التحالفا، بحسب وثيقة الدستور الانتقالي، ما تزال في طور التكوين. بجانب أنّ مؤسسات الدولة و”السلطة” التنفيذية لم يكتمِل عقدها بعد، ولم تجتمع لممارسة نشاطاتها حتى تتمكن من صناعة السياسات وصياغة المواقف السياسية، خاصة فيما يلي الموقف من المفاوضات. في غياب المعلومات، فإنّه من الصعوبة بمكان توفير إجابةٍ شافيةٍ لهذا السؤال، وما يولده من أسئلة فرعية، إلاّ محاولة رسم سيناريوهات  تقوم على فرضيات وافتراضات.

فقبلِ الجلوس على طاولة التفاوض فإنّه من البديهي أن يتم أولاً تحديد الأطراف المتفاوضة والاتفاق على أجندة التفاوض. فقبل إعلان تحالف “تأسيس” وارهصات تشكيل سلطته ودولته، كانت الدعوة للتفاوض قد تحددّ طرفيها في الجيش وقوات الدعم السريع، بحُكمِ إعلان جدة (مايو 2023) الذي اقتصر أجندة التفاوض على هدف “حماية المدنيين والتوصل إلى وقفٍ لإطلاقِ نارٍ قصير المدى لتسهيل توصيل المساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساسية، مع الالتزام بجدولة المناقشات الموسعة اللاحقة لتحقيق وقف دائم للأعمال العدائية”. وربما الأهم، هو نص الإعلان في بنده الثاني أن الالتزام بالإعلان لن يرتبط بالانخراط في أي عملية سياسية. 

ولكن، منذ ذلك التاريخ تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر ومن فوقه، وطرأت مُتغيراتٌ متعددة على مشهد الحرب عسكرياً وسياسياً ومجتمعياً، بينما لم تنجح جميع المساعي الإقليمة والدولية الساعية لوقف وإنهاء الحرب في السودان، وأن تجمع الخصوم العسكريين والسياسيين على طاولة للتفاوص أو الحوار. وعلى العموم، كما لم تفلح كل هذه الأطراف في التوافق على منبر تفاوضي تقوده وساطة قوية، لا تملك حتى مجرد إطار تفرضه على المتحاربين، فحتى “الرباعية” لا تُعدُّ منبراً للوساطة. فهل سيظل منبر جدة هو مرجعية التفاوض؟ 

فإن أضحى التفاوض أمراً واقعاً وقبِلت به كافة الأطراف المعنية، فكيف ستكون طبيعة التفاوض من ناحية الأطراف المُشاركة وأجندة ومواضيع هذا التفاوض؟ في ظني أنّه من المُرجح أن يطالب الدعم السريع وحلفائه العسكريين والسياسيين التفاوض مع الحكومة بصفته “سلطة” تؤسس في دولة جديدة، أو التفاوض مع التحالف السياسي ل”تأسيس”. وفي المقابل، في رأيي أنّ الحكومة في بورتسودان لن تقبل بالتفاوض إلاّ مع الدعم السريع والحركة الشعبية شمال، وفي مسارين مختلفين. فالحكومة والدعم السريع أصلاً كانا قد انخرطا في مفاوضات جدة (مايو-ديسمبر 2023)، بينما دخلت الحركة الشعبية في مفاوضات مع الحكومة الانتقالية منذ أواخر 2019 لم تنجح في التوصل لاتفاق مباديء يحكم العملية التفاوضية. بجانب الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام (التي انضمت لتحالف “تأسيس”) والتي لا أظن أنّ الحكومة ستتفاوض معهم من جديد، خاصة وأنّ لحركتي تجمع قوى تحرير السودان وحركة تحرير السودان- المجلس الانتقالي ممثلين في مجلس السيادة. وربما أمرٌ آخر جدير بالاهتمام هو أن الحركة الشعبية شمال ظلت تتفاوض مع حكومة أمر الواقع قبل دخولها في تحالف “تأسيس”، فهل ستستمر الحركة على نفس النهج أم ستشترط أن يكون التفاوض مع تحالف و”سلطة تأسيس” وقواته العسكرية؟

إنّ المنهج الذي ظلت تتبعة حكومات ما بعد الاستقلال لتحقيق السلام هو التفاوض مع “المتمردين” حاملي السلاح، خاصة نظام الإنقاذ الذي كان يُميزُ بين “الحوار” السياسي بين المؤتمر الوطني والقوى السياسية وبين “التفاوض” العسكري بين “الحكومة” والحركات المسلحة. فلم تقبل أبداً حكومة نظام الإنقاذ التفاوض مع التجمع الوطني الديمقراطي، بل كانت تجلس فقط مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وبدونِ وضع أي اعتبارٍ للفصائل الحزبية المسلحة المنضوية في القوات العسكرية المشتركة للتجمع. بجانب أنّ قيادات التجمع المعارض العسكرية والسياسية لم يطرأ على بالها التفكير في إنشاء “سلطة” موازية أو تأسيس دولة جديدة. بجانب أنّه لم يحدث في تاريخ المفاوضات السياسية السودانية أن دخلت الحكومة المركزية في منبر تفاوضي يضُم فصائل عسكرية متعددة، ربما ما عدا منبر جوبا لسلام السودان.

ومن الجانب الآخر، أكد الدستور الانتقالي ل”سلطة تأسيس” على أن تقوم “حكومة السلام” الانتقالية التأسيسية بالخطوات الضرورية لتأسيس جيش وطني جديد موحَّد، مهني وقومي، بعقيدة عسكرية جديدة. بجانبِ، أن تكون قوات الدعم السريع والجيش الشعبي شمال وحركات الكفاح الُمسلَّح الموقعة على ميثاق السودان التأسيسي نواةً للجيش الوطني الجديد، مع الإقرارِ بحل المليشيات التابعة للمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وجميع المليشيات الأخرى. ومع ذلك، فخلافاً لتعريف الأهداف العامة لتكوين هذا الجيش الوطني الواحد، لم يتطرق الميثاق التأسيسي لوسائل وآليات تشكيل هذا الجيش، أو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للتحدي الجسيم الكامن في عملية الترتيبات الأمنية (الداخلية) بين الدعم السريع والحركات المسلحة المشاركة في التحالف، وهي الآلية الأساس لتكوين هذا الجيش. فإذا كانت عملية تكوين الجيش الواحد من الفصائل المسلحة في تحالف تأسيس لم تتضح معالمها بعد، فمن الصعب التكهُن بطبيعة وكيفية الانخراط في أي عملية ترتيبات أمنية مع الحكومة والقوات المسلحة في سياق مفاوضات لا يعلمُ غير رب العالمين إن كانت ستحدُثُ أم لا. وللمفارقة، بينما يُشدد دستور “سلطة تأسيس” على هدفِ إنهاءِ ظاهرة تعدد الجيوش والعمل على تأسيس جيش وطني واحد، يبدو أنّ هناك ثمةَ تناقض بين الدستور وميثاق تحالف “تأسيس” حيال هذا الهدف، مما يُثيرُ التساؤلات! حقاً، فأحد المبادي العامة لميثاق التحالف تنُصُ على “الإقرار بحق الحركات المسلحة الموقعة على هذا الميثاق في الاستمرار في الكفاح المسلح كوسيلة من الوسائل المشروعة للمقاومة والنضال من أجل التغيير وبناء السودان الجديد”! (“الميثاق التأسيسي لحكومة الوحدة والسلام: نحو وطن يسع الجميع“، السودانية نيوز، 23 فبراير 2025). هذا التناقض يُثيرُ سؤالاً: فضدِ من سيكون هذا الكفاح المسلح؟ ضد الجيش الوطني الجديد الذي هي نظريا جزء من تكوينه؟ وكيف سيكون هذا الجيش موحدا إذن وهو يحارب نفسه؟ أم أنّ الميثاق التأسيسي يتحسب لحرب (أو قُل حروب) قادمة طويلة الامد!

حدسي يقول، أنّه ما لم تنقلب موازين القوة العسكرية والسياسية بشكلٍ دراماتيكي،  وأزِفَ وقت المفاوضات، فإنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تأبى الحكومة والقوات المسلحة الدخول في تفاوض مع تحالف أو “سلطة تأسيس”، حتى لا يختل التوازن على طاولة المفاوضات. بل، في ظني ستتبع الحكومة النهج “المجزأ/التدريجي” (piecemeal) في التفاوض مع كل فصيل مُسلح على حِدّة. فمرجعية التفاوض مع قوات الدعم السريع هو منبر وإعلان مباديء جدة حول التفاوض على أجندة عسكرية بحتة دون اي مفاوضات سياسية .أما التفاوض مع الحركة الشعبية شمال فأصلاً له مساره الخاص القائم على مرجعية اتفاقية السلام الشامل والقضايا العالقة، ولم يتوقف منذ اندلاع الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، في يونيو وسبتمبر 2011، على التوالي، وخلال الفترة الاتتقالية حتى انقلاب “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021. غياب المعلومات والمواقف الواضحة من التفاوض للقائد عبد الواحد نور، رئيس حركة تحرير السودان، تُصعِّب التكهن بطبيعة وشكل تفاوضه مع الحكومة. أما الحركات المسلحة التي سبق وأن وقعت على اتفاق جوبا لسلام السودان، “تجمع قوى تحرير السودان/الطاهر حجر، وحركة وجيش تحرير السودان – المجلس الانتقالي/الهادي إدريس، وحركة العدل والمساواة/سليمان صندل، فلا أدري بالضبط مسار المفاوضات الذي سيختارونه.

خاتمة

في نهاية المطاف، وبافتراض ثبات العوامل الأخرى، سيبقى موقف الحركة الشعبية شمال بقيادة الكوماندر عبد العزيز الحلو كما هو من التفاوض على والانخراط في عملية الترتيبات الأمنية، وأنّ أيِ تغيير في موقف المبدئي القديم عن الترتيبات الامنية يظلّ بعيد الاحتمال، وبل انها سوف تستمر في التمسك به بشدة. وذلك يجعل من الصعوبة بمكان، إن لم تكُن من الاستحالة، التوصل إلى اتفاق سلام مُستدام بين الحركة الشعبية شمال والحكومة في المدى المنظور. ولا يعني هذا الموقف، بأي حالٍ من الأحوال، قطع الاتصال أو منع التواصل مع الحركة الشعبية شمال بقيادة الحلو، فلدى الحركة الشعبية لتحرير السودان إرث تاريخي وعلاقات راسخة مع  كافة القوى والسياسية والمجتمعية في البلاد. 

فقد كان الراحل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، مُدركاً منذ تأسيس الحركة، أنها لن تكون قادرةً بمُفردِها على إنجاز مهمة بناء سودانٍ موحد قابل للحياة، مما يجنب البلاد شرور التمزق وأهوال التشظي. لذلك، كان جون قرنق حريصاً منذ البداية على خلق صلات مع مختلف الكيانات السياسية والإجتماعية  في الشمال (خاصة “القوى التقليدية”)، ومد يديه إليها، كسبيلٍ ناجعٍ لتحقيق الهدف الرئيس في إرساءِ قواعدِ وحَدّة البلاد على أسسٍ جديدةِ وبناءِ دولة المواطنة. فهكذا، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات أقامت الحركة الشعبية تحالفات مع جميع القوى السياسية التقليدية والحديثة ، بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني.

ولعب جون قرنق دوراً محورياً في في بناء تحالفات مع جميع هذه القوى ، منذ كوكادام في 1986 إلى التجمع الوطني الديمقراطي بعد إنقلاب الإسلاميين، ومؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في 1995. ولولا هذا المنهج من التعاطي مع القوى السياسية والمجتمعية المتنافرة وجمعها للتوافق على قضايا البلاد التأسيسية، ولما تمّ التوصل إلى اتفاقية السلام الشامل وما حققته من مكاسب سياسية واقتصادية لجنوب السودان. ومن المُهِم بمكانٍ، أن جون قرنق لم تراوده إطلاقاً فكرة تشكيل سلطة أو حكومة موازية أو تأسيس دولة جديدة علمانية، أو أن تصنع الحركة الشعبية مع حلفائها دستوراً تقوم على أساسه هذه الدولة. بل قاوم مطالب قيادات من الحركة والجيش الشعبي بالإستيلاء على جوبا في وقت كانت قوات الجيش الشعبي تُحاصر المدينة لأمدٍ طويل، حتى لا يتحمل مسؤوليه تعطيل مؤسسات الدولة من تسيير أعمالها في تقديم الخدمات، وهي مسؤولية جسيمة لم يُرِد الزعيم الراحل أن يُحمِلها للحركة مما يُعرقل سيرورة التحرير وعملية التغيير.

وفي المقابل، لم تنقطع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو من التواصل والتوقيع على مُذكرات تفاهم وإعلانات مباديء، مع مختلف أطياف القوى السياسية متباينة التوجهات الفكرية، بل واتفاق سياسي مع رئيس الوزراء المستقيل، سبتمبر 2020، وعلى إعلانِ مباديءٍ مع رئيسِ مجلسِ السيادةِ، مارس 2021. على هذه الخلفية، وجهتُ رسالةً مفتوحةً إلى القائد عبد العزيز الحلو، قبل اندلاع الحرب بأقل من شهر، في 20 مارس 2023. زعُمت في الرسالةِ أنّ توقيعه على كُلِ هذه المذكرات والييانات المُشتركة، مع القوى السياسية متباينة التوجهات الفكرية، هو بمثابةِ مدخلٍ مُهم ليس لتوسيع مظلة التفاهمات السياسية للحركةِ فحسب، بل لتكونّ فاعلاً سياساً رئيساً في عملية سياسية تُفضي إلى حوارٍ تأسيسيٍ دستوري، الذي ظلّ الزعيم الراحل للحركة الشعبية لتحرير يُنافحُ عنه، ويدعو له مُنذ النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. وحثثتُ الكوماندُّر عبد العزيز على السعي لإعادة إحياءِ الدورِ التاريخي للحركة الذي أختط طريقه الزعيم الراحل جون قرنق، وأن يدعو القوى السياسية الموقعة معه على تفاهمات، وكل القوى الأخرى الراغبة، إلى عقدِ *”تمرينٍ دستوري”* يستضيفه في كاودا. (الواثق كمير، “رسالة مفتوحة إلى الكوماندر عبد العزيز الحلو: لمَّ لا تدعُ إلى تمرينٍ دستوري؟”، سودانايل 20 مارس 2023).

وفي ردٍ مُطول منشور على رسالتي المفتوحة، أعاد القائد عبد العزيز الحلو التأكيد على تفاهمات الحركة الشعبية مع غالبية القوى السياسية في السودان حول قضايا تأسيس الدولة السودانية الحديثة (العلمانية – الديمقراطية). وأنّ الحركة “ستواصل سعيها مع هذه القوى لبناء الوطن الذي يسع الجميع عبر (مشروع وطني – وعقد إجتماعي جديد)، ولكن بخطوات محسوبة وآليات فاعلة ليس من بينها آلية (المؤتمر الدستوري)”، على حدِ تعبيرهِ. بعد عامين بالضبط من هذه الرسالة، يبدو أنّ الرفيق عبد العزيز قد خلُص إلى أنّ تحالفه مع الدعم السريع هي الخطوة المحسوبة، ومشاركة الحركة في “سلطة تأسيس” الموازية هي الآلية الفاعلة لفرضِ الدولة العلمانية (النظرية) هكذا دون حوجةٍ لحوارٍ دستوريٍ خارج أسوار هذه الدولة. فهل هذا هو الخيار القابل للتطبيق، كما هو الأصح والأسلم لبناء دولة المواطنة السودانية، جوهر رؤية “السودان الجديد”؟ (عبد العزيز آدم الحلو، “رداً على الرسالة المفتوحة للدكتور/الواثق كمير”، سودانايل 1أبريل 2023).

من الصحيح أن الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت هي المُبادرة والمحرك الرئيس لسيرورة تحويل رؤية “السودان الجديد” إلى واقع في لحظة تاريخية معينة. ومع ذلك، فهذه الرؤية، في جوهرها، إطار مفاهيمي وليست عقيدة أو أيديولوجيا خاصة بالحركة الشعبية، كما أنّ مهمة بناء دولة سودانية قائمة على المواطنة، وسودان موحّد قابل للحياة، هي مشروع وطني لا تملكه أو تحتكره الحركة الشعبية لوحدها. 

وأختمُ بمقولةٍ كان يرددها دوماً الزعيم الراحل جون قرنق أنّ “الحركة الشعبية لتحرير السودان هي التي تقدمت برؤية السودان الجديد. ولكن، مثلما أن السودان القديم يتعرض لتغيّرات جذرية في مسيرة انتقاله نحو السودان الجديد فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان نفسها لابد أن ينالها التطوير وتخضع بذلك لتحولات أساسية (شمالاً وجنوباً)”. إنّ النظريةَ خضراء ولكن الواقع يتدرج في طيفٍ واسعٍ من الألوان. 

6

اترك رد

error: Content is protected !!