من اعماقي / د. امجد عمر

الجمرة بتحرق الواطيها


بقلم: د. أمجد عمر محمد

في دروب الحياة، تتفاوت مشاعر البشر وتختلف تجاربهم، لكن يبقى أمرٌ واحد لا خلاف عليه: لا أحد يشعر بما في داخلك تمامًا كما تشعر به أنت. وهذا ما عبّر عنه أهل السودان بمثل شعبي راسخ في الوجدان: “الجمرة بتحرق الواطيها”، وهو قول يلخص الحكمة العميقة بأن الألم لا يُدركه إلا من يكابده.

حينما يُصاب الإنسان بمحنة أو ألم، يقترب منه أحباؤه، يعزونه، يحاولون مواساته، لكنهم يقفون عند عتبة الشعور دون ولوجه؛ لأنهم مهما حاولوا، لن يقدروا حجم الجمر الذي يحترق في صدره. قد يقولون “نحن نحس بك”، ولكن الحقيقة أن الإحساس لا يرقى إلى معايشة التجربة ذاتها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى الدقيق في قوله تعالى:
﴿وَإِن تَصِبْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156].
فرد الفعل هنا شخصي، خاص، صادر من عمق المصاب، يعبّر عن استسلام داخلي ورضا، لا يُمكن تقليده أو تمثيله إلا لمن اكتوى.

وفي الحديث الشريف، يقول النبي ﷺ:
“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” [رواه البخاري ومسلم].
ورغم أن الحديث يحث على التراحم والتعاطف، إلا أنه يؤكد ضمنيًا أن الشعور الكامل بمعاناة الآخر يتطلب أن تُسقط تلك المعاناة على نفسك، وتتخيلها واقعة بك، وهي درجة عالية لا يبلغها الكثيرون.

ومن القصص المؤثرة في المجتمع السوداني، قصة تلك الأم البسيطة في قرية صغيرة بولاية الجزيرة، التي فقدت ابنها الوحيد في حادث طريق. أحاط بها الجيران، قدّموا العزاء، بكوا معها، لكنهم لم يقدروا على أن يلامسوا الحزن العميق في صدرها، لأنها كانت ترى فيه زوجها الراحل، وأملها في الحياة، ومعينها الوحيد. قالت يومها عبارة أدمعت العيون: “هم بعزوا في موتك، وأنا بعزّي في روحي.”

وفي المجتمع الأمريكي، نذكر قصة جون والش، الرجل الذي فقد ابنه في حادث اختطاف مؤلم، وتحول لاحقًا إلى ناشط بارز في حقوق الأطفال. قال في أحد لقاءاته: “لم أكن أتخيل ألم فقد طفل حتى اختفى آدم. لا يمكن وصف الإحساس، ولا يمكن لأحد فهمه حتى يمر به.”

وفي مأثور القول، قال الشاعر العربي:
ليسَ من سمعَ كمن جرّبَ في الوجدانِ نارًا تلتهبُ
فالسماع يورث معرفة سطحية، أما التجربة فتسكن الوجدان، وتشكل الوعي، وتبني التعاطف الحقيقي.

أما الأديب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي، فقد قال:
“عندما تتألم، لا تنتظر من أحد أن يشعر بك كما تشعر بنفسك، فالألم تجربة فردية بامتياز.”

ومن أقوال الكاتب باولو كويلو:
“كل إنسان يحمل ألمًا لا يعلمه أحد، فلا تحكم على أحد قبل أن تجرب حياته.”

وفي ظل الحرب الدائرة اليوم في السودان، يتجلى مغزى هذا المقال أكثر من أي وقت مضى. فقد ارتكبت مليشيات الجنجويد العديد من الفظائع التي طالت المواطن السوداني الأعزل، وخلّفت وراءها مآسي يصعب حصرها. آلاف فقدوا ذويهم، وبيوتهم، ومدنهم، وعقولهم. كثيرون منهم لا يحتاجون فقط إلى المأوى أو الغذاء، بل إلى حضن دافئ، إلى كلمة مواساة، إلى يد تنتشلهم من قاع الأسى. من نجا من الموت لا يزال يصارع أثقاله في صمت، ومن بقي بعقله يعاني كوابيس الواقع.

وإن أكثر ما يلهب القلوب ويمزق الأرواح، تلك المشاهد التي لا تُنسى: نساء اُغتصبن أمام أزواجهن، فتيات اختُطفن وعُذبن، أطفال قُتلوا أمام أمهاتهم، وشباب أُعدموا دون محاكمة أمام أعين من يحبونهم. ليست هذه مجرد انتهاكات حقوقية، بل طعنات في صميم النفس البشرية، لا تُداوى بسهولة. الألم هنا لا يقتصر على من عاش الحدث، بل يفيض على المجتمع كله، فيغمره بالخوف، والخجل، والعجز، وربما بالذنب أيضًا. ومن عاش تلك اللحظات لن تعود له الحياة كما كانت، لأن في داخله شيء انكسر، ولن يعود.

إن المثل السوداني “الجمرة بتحرق الواطيها” ليس مجرد تعبير عابر، بل فلسفة إنسانية متجذرة في فهم طبيعة الشعور البشري، تذكرنا أن أعظم ما يمكن أن نقدمه لمن يعاني هو التعاطف الصادق، لا الحكم، والاحتواء لا النصيحة الفارغة، والاستماع لا التفسير. أن نمد أيدينا بلطف دون أن نزعم أننا نعرف تمامًا ما يشعر به، لأننا في النهاية، لم نطأ الجمر ذاته.

اترك رد

error: Content is protected !!