على شط النيل / مكي المغربي

الجلسة مع تيبور وديفيد واللوبي الإثيوبي الأمريكي!

مكي المغربي

القاعدة في أمريكا هي: لا تعادي أحدًا بسبب نجاحه، إما أن تنجح مثله وأفضل، أو تتعامل معه بواقعية حتى تقوى شوكتك. “If you can’t beat them, join them”
كانت الندوة الافتراضية مليئة بالحيوية مع السفراء الأمريكان تيبور ناجي وديفيد شين وعدد من متحدثي القرن الأفريقي. استغرقت الجلسة خمس ساعات، والمجموعة التي احتضنت اللقاء هي المجموعة الأمريكية لمناصري السلام في القرن الأفريقي. هذه المجموعة – بالرغم من وجودي فيها – لا أشك أنها جزء من اللوبي الإثيوبي. أناقشهم في هذا كثيرًا ونختلف، ويميلون إلى تجاهلي لفترة، لكن في النهاية يحرصون على وجودي ويستعيدون العلاقة. عمليًا، لن تنجح أي مجموعة أخرى، لأن أعضاء القرن الأفريقي الآخرين ليست لديهم رغبة في أي عمل حقيقي. المغامرات السياسية والاستخباراتية لا تنفع، بل ستفضح الدول المشاركة فيها. صناعة اللوبيات أمر مختلف تمامًا، والإثيوبيون هم الأنجح في القرن الإفريقي، بينما الآخرون فاشلون.
في فترة ازدهاره، تعامل اللوبي الإثيوبي في أمريكا معنا بتعالي وغطرسة، وأقصد بـ “معنا” ممثلي القرن الأفريقي أو شرق أفريقيا في الحراك الأمريكي، خاصة في المحاضرات والندوات، وتحديدًا أنا وصديقي الصومالي، مستشار وزير الدفاع. اضطررنا للتنسيق معًا، حيث لا يوجد لوبي صومالي أو سوداني، وقد يستغرب البعض عندما أقول إنه لا يوجد لوبي صومالي رغم وجود إلهان عمر وآخرين في قمة المجتمع السياسي الأمريكي.
السبب هو أن اللوبي الموجود يهتم بحماية الصوماليين وقضايا الأقليات في أمريكا، ويدعمهم للوصول إلى المناصب، لكنه لا يهتم بالدولة الصومالية. إذا ناقش قضاياها، فإنه ينقسم، بما في ذلك قضية أرض الصومال.
لا يوجد لوبي سوداني، لكنني أتوقع قيامه، لأن العقبة الكؤود قد زالت، وهي العصابات السياسية التي كانت تختزل دور السودانيين في المهجر في التحريض ضد السودان، حتى أصبحوا مجرد أدوات لتمرير العقوبات والقرارات. الآن، هناك كثيرون كسروا هذا القيد القذر.
هناك قائمة طويلة من اللوبيات الأفريقية والعالم-ثالثية، لكن الأخطر في أفريقيا هو اللوبي النيجيري. ازدهر في عهد ترامب، واستمرت العلاقة رغم حديث ترامب المسيء عن أفريقيا وقراراته بحظر بعض الدول الأفريقية، بما فيها نيجيريا، من الفيزا الاعتيادية. السبب هو أن اللوبي مؤسس على مصالح نفطية مستقرة وفيه بليونيرات. للأسف، أثر هذا اللوبي في توجهات نيجيريا الاستقلالية والأفريقانية، والدليل أن (بانكولي) في الاتحاد الأفريقي استخدم نفوذ نيجيريا ضد السودان.
بعد ذلك، تأتي قائمة طويلة من لوبيات أمريكا الجنوبية والوسطى، التي تهتم بقضاياها، لكنها ترفض الاحتلال الإسرائيلي وتدعو لحل الدولتين بقوة تفوق بعض الدول العربية. بالنسبة للبعض منهم، تقليل الضرائب على أندية البلياردو أهم من السياسة الخارجية، لأنهم يمتلكون معظمها في بعض المدن. ولذلك هي لوبيات جيدة ولكنها أحيانا أخطر من أمريكا نفسها.
العمود الفقري لجماعات “اللوبي الإثيوبي” هو المثقفون والناشطون والناجحون من الأمهرا. هم الأكثر تنظيمًا وفعالية في المجتمع الأمريكي، خاصة في واشنطن العاصمة ومكتب عمدة المقاطعة، حيث نجحوا في اعتماد اللغة الأمهرية في واشنطن. هم أذكياء ودهاة، لذلك لا يهملون القوميات الإثيوبية الأخرى وينحازون لها عند الحاجة. هم يحتلون الحيز الأكبر في قضايا القرن الأفريقي ويتحملون النقد من أعضاء القرن الأفريقي فقط.
فترة ازدهار اللوبي الإثيوبي كانت عندما تحالف أبي أحمد مع الأمهرا واعتمد عليهم في “حرب التقراي”. لولاهم لما استطاع صد الهجوم الدبلوماسي العنيف في أمريكا والغرب، ثم تموضع بعد ذلك ليصد الهجوم عسكريًا بصفقات الطائرات المسيرة التي تمت بضوء أخضر أمريكي، واستطاع في النهاية منع التقراي من دخول أديس أبابا.
اللوبي الإثيوبي الأمريكي لم يكن على وفاق تام مع حكومة ملس زيناوي، إلا في قضيتين لا يمكن التمييز فيهما بين المعارضة الإثيوبية والحكومة: قضية سد النهضة وشروط صندوق النقد الدولي.
القضية الأولى معروفة، أما الثانية، فأفسر انحياز الإثيوبيين في المهجر لحكوماتهم ضد شروط المؤسسات المالية الدولية بأن التوجه العام بينهم تاريخيًا هو الاشتراكية. الكبار فيهم غير مقتنعين بالاقتصاد الحر، حتى وإن كانوا رجال أعمال ومليونيرات حققوا ثرواتهم في أمريكا من خلال الاقتصاد الحر.
عندما يضعف اللوبي الإثيوبي ويتصدع، يلجأ إلى واجهة عريضة وهي “القرن الأفريقي”، ويعيد البحث عن الشخصيات المؤثرة للتأكيد على تمثيل مصالح الشعوب والدول في شرق أفريقيا. لولا ذلك، لما تمت دعوتي للتحدث في المنصة جنبًا إلى جنب مع شخصيات أمريكية بارزة، مثل السفير تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية لشؤون أفريقيا، والسفير البروفيسور ديفيد شين.
السفير ديفيد شين كان يتحدث في الندوة بما تعلنه الخارجية الأمريكية، واضعًا على لسانه فقرات من بياناتها. كان نسخة من بلينكن وتوم بريليو، وهذا تقزيم لدوره وتاريخه، لقد كان من أعز أصدقاء السودان في مفاوضات رفع العقوبات الإقتصادية عندما برز دور “مركز المجلس الأطلنطي”.
تيبور ناجي أصلاً بيني وبينه مكاتبات عبر الإيميل، ومقالات بسبب موقفي المؤيد لأمريكا في انتخابات الكونغو عام 2018، التي رفضها الاتحاد الأوروبي بحجة أنها ستعيد إنتاج نظام كابيلا الفاسد ولوجود الحرب في بعض المناطق. رفضها أيضًا الحزب الديمقراطي في عهد ترامب، بل كان الرفض داخل وزارة الخارجية الأمريكية، حيث كان تيبور ناجي، المهاجر الهنغاري العنيد، ممسكًا بالملف الأفريقي بإحكام. جرت الانتخابات، وكانت واقعية، ولم يتم التصويت في أربع محافظات وعدد من المدن بسبب الحرب. كانت هذه أول انتخابات بعد خروج المستعمر البلجيكي من الكونغو.
نجح ترامب ونجح تيبور، واستقرت الكونغو، لكن ماذا حدث في عهد بايدن؟ مجموعة من مزدوجي الجنسية، بينهم أمريكان وكنغوليون، يتزعمهم ناشط أسس حزبًا كنغوليًا في المهجر الأمريكي، خططوا ونفذوا محاولة انقلاب على الرئيس المنتخب فيليكس تشيسكيدي. يواجهون الآن الحكم بالإعدام، رغم حيازتهم جوازات أمريكية وأوروبية.
في جلسة سابقة، سألني صديق أمريكي: “هل تتوقع أن تجرؤ حكومة الكونغو على إعدامهم؟” قلت له: “لا أتوقع”، لكن حذرته من القصة المعروفة بأن السفير الفرنسي في أول سنة بعد استقلال الكونغو ذهب للنزهة في غابة مع زوجته، فأكلهما بعض البدائيين. بعد غضب فرنسا واعتذارات الكونغو، تبين أن السفير كان مخطئًا بتوغله في غابة سيئة السمعة دون علم السلطات ودون حراسة، كان لقمة بيضاء شهية بالنسبة لهم، ولكن فرنسا طالبت بتعويض مالي ضخم لتهدئة الرأي العام الفرنسي. حينها ردت حكومة الكونغو ببرود: “لا نملك هذا المال، ولذلك نقترح عليكم أكل سفيرنا من باب التعامل بالمثل”. بالطبع، كان علي أن أقول “لا أتوقع” بطريقة جازمة قبل أن أروي هذه الكوميديا السوداء.
لا يفوتني ذكر حديث قوي من تيبور ناجي، وأعتقد أنه كان ردًا على ديفيد شين نفسه، حيث تحدث ديفيد عن انحياز السودان لمصر في قضية سد النهضة. قال تيبور بكل جرأة: “في حالة تخيير أمريكا بين مصر وإثيوبيا، سنختار مصر. قد يكون هذا غير عادل، لكن أحيانًا لا بد أن تختار.”
بالطبع، الإثيوبيون كانوا أذكى من مهاجمته، امتصوا الصدمة وردوا عليه بلطف ودهاء.
هل يجب أن يعتبر الناس هذا الموقف لصالح مصر؟ الإجابة عندي أنه فخ استراتيجي، لأن المنطق ذاته يُستخدم لاحقًا لاختيار مصالح إسرائيل ضد مصر وكل العرب.
هنا يكمن الخطر في الاعتماد على الخيارات الأمريكية، لأن إثيوبيا ببساطة تذهب وتتحالف مع إسرائيل (أو احد وكلائها) وتستقوي بهما ضد مصر، ثم تعود لتفضلها أمريكا مرة أخرى (بالشباك) بعد أن خرجت من (الباب).
لذلك ما أردده دوما، خروج دول المنطقة من منهج التعاون لمنح الخارج فرصة في إدارة الصراعات الاقليمية سيفضي إلى خسارة الجميع في النهاية، لا بد من التعاون بين مصر والسودان وإثيوبيا، وضرب مخطط الصراع المدار خارجيا.

تعليق واحد

  1. قولك غالبا صائب ووجود لوبي سوداني يقدم مصالح البلد وينحاز لانسانه امر هام وضروري ولابد ان يتم تجاوز مرحلة اللوبي الذي يؤيد فرض العقوبات مقابل مصالح افراده وضد الشعب ،،، تجاوز المرحلة يجب ان يتم بالعفو عن الافراد من العقوبات او الملاحقة مقابل الانخراط في نشاط بناء وايجابي لصالح المواطن داخل مؤسسات الدولة الامريكية ومؤسسات صنع القرار . الشعب السوداني من اؤايل الشعوب التي انتجبت جالية ولابد ان تستعيد وعيها وان تتعامل ايجابا وليس سلبا مع تنمية ونماء ورفاهية الشعب السوداني

اترك رد

error: Content is protected !!