الرأي

“الثقافة والاقتصاد: حينما تُعيد المجتمعات تشكيل مصيرها”

بقلم: د. أمجد عمر محمد

تلعب الثقافة المجتمعية دوراً محورياً في تشكيل ملامح الاقتصاد في أي دولة، ويُعد السودان نموذجاً واضحاً لتأثيرات العادات والتقاليد والأفكار المتوارثة على الأداء الاقتصادي العام. فالثقافة لا تقتصر فقط على الفنون والعادات، بل تمتد لتشمل السلوكيات اليومية ونظرة المجتمع للعمل والمال والإنتاج، وهي عوامل تترابط مع النمو الاقتصادي بشكل وثيق.
في السودان، تبرز تحديات اقتصادية متجذرة في البنية الثقافية، حيث يُلاحظ أن النظرة المجتمعية لبعض المهن لا تزال تقليدية، فالكثير من الحرف والمهن اليدوية التي تُعد مصدراً مهماً للدخل في دول أخرى، لا تحظى بالتقدير الكافي داخل المجتمع السوداني. هذا الواقع يدفع الشباب إلى تجنب الانخراط في مجالات قد تكون أكثر إنتاجية، مفضلين البحث عن الوظائف المكتبية أو الحكومية التي يرون فيها مكانة اجتماعية أرفع، حتى وإن كانت ذات عائد أقل أو فرص نمو محدودة.

كما أن النمط الاستهلاكي المرتبط بالمناسبات الاجتماعية، مثل الأعراس والوفيات والاحتفالات الدينية، يؤدي إلى إنفاق مبالغ طائلة تتجاوز أحياناً دخل الأسرة الشهري أو السنوي، ما يخلق ضغطاً اقتصادياً كبيراً، ويؤثر سلباً على قدرة الأفراد على الادخار أو الاستثمار. هذا السلوك لا يعكس فقط غياب ثقافة التوازن المالي، بل يدل على تأثير العادات الاجتماعية في توجيه السلوك الاقتصادي، حتى في ظل الظروف المعيشية الصعبة.

إضافة إلى ذلك، يُلاحظ ضعف ثقافة التخطيط المالي الشخصي، حيث يعتمد الكثير من الناس على الدخل اليومي أو الموسمي دون وجود خطط ادخار أو استثمار طويلة الأمد. هذه الذهنية تُسهم في هشاشة الوضع المالي للأفراد، وتجعلهم عُرضة لأي تغير اقتصادي مفاجئ، وتحد من مساهمتهم في بناء قاعدة اقتصادية مستقرة ومستدامة.

رغم أن السودان يُعتبر من أغنى الدول من حيث الموارد الزراعية، إلا أن الممارسات الزراعية لا تزال تقليدية في معظمها، وتعتمد على أدوات وأساليب بدائية. هذا يعكس جانباً ثقافياً يتمثل في مقاومة التغيير أو الشك في فعالية الأساليب الحديثة، مما يؤدي إلى انخفاض في الإنتاجية، وعدم الاستفادة الكاملة من الإمكانيات الزراعية المتاحة. كما أن بعض العادات المرتبطة بالأرض والميراث الجماعي تخلق نزاعات وتحديات تعوق الاستثمار الزراعي، وتحول دون إقامة مشاريع زراعية كبيرة ومستقرة.

من جهة أخرى، تسهم بعض الأعراف القبلية والمجتمعية في الحد من مشاركة فئات معينة في النشاط الاقتصادي، وعلى رأسها النساء، إذ لا تزال بعض المجتمعات تنظر إلى عمل المرأة بريبة أو عدم قبول، مما يحرم الاقتصاد من طاقات كامنة ومهارات يمكن أن تُحدث فارقاً كبيراً في الإنتاج والخدمات. كما أن غياب العمل المجتمعي والتطوعي المنظم يجعل من الصعب خلق مبادرات تنموية محلية يمكن أن تُسهم في تحسين الواقع الاقتصادي، خاصة في الأرياف والمناطق الأقل نمواً.

وتُعد الشائعات من المؤثرات القوية على السوق السوداني، حيث يمكن لأي خبر غير مؤكد أن ينتشر بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيخلق حالة من الهلع أو التهافت على شراء أو بيع سلعة معينة، ما يؤدي إلى اضطراب في الأسواق وارتفاع غير مبرر في الأسعار. هذا يعود إلى غياب ثقافة التحقق من المعلومات، وانعدام الشفافية في بعض جوانب السوق، مما يجعل من السهل التأثير عليه نفسياً أكثر من تأثره بالوقائع الفعلية.

أما الاغتراب، فهو جزء متأصل في الحياة السودانية، ويُشكّل سيفاً ذا حدين. فعلى الرغم من أنه يوفّر دخلاً كبيراً للأسر عبر التحويلات المالية، إلا أنه ساهم أيضاً في تفريغ السوق المحلي من الكفاءات والمهارات، مما أدى إلى ضعف في البنية الاقتصادية الداخلية، واعتماد بعض الأسر على الدخل القادم من الخارج بدلاً من تنمية مصادر دخل محلية قائمة على إنتاج فعلي فضلا علي ان جعل مقدر من التحويلات لا تاني بالطرق التي تفيد الاقتصاد.

إن معالجة هذه الإشكالات لا تتطلب حلولاً اقتصادية بحتة، بل تبدأ من فهم عميق للثقافة المجتمعية والعمل على تطويرها عبر التعليم والإعلام والمناهج التربوية، وتشجيع التفكير النقدي والانفتاح على التجارب الناجحة. فالثقافة ليست عائقاً بحد ذاتها، بل قد تكون محركاً للتنمية إذا ما وُجهت بالشكل الصحيح.

اترك رد

error: Content is protected !!