الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

التعدين الرقمي في مياه النيل: كيف يحوّل سد النهضة كهرباء السودان إلى عملة رقمية؟

سد النهضة والكهرباء المفقودة:
في الوقت الذي لا يزال فيه أكثر من ٥٥٪ من الأثيوبيين محرومين من الكهرباء في منازلهم، يعتمد السودان على نهر النيل كشريان حياة لري ملايين الأفدنة الزراعية. ومع ذلك، تخصص أديس أبابا نحو ٦٠٠ ميجاوات يومياً (ما يعادل استهلاك ولاية سودانية كاملة مثل الجزيرة) لتشغيل مزارع تعدين عملات رقمية تملكها شركات صينية وأخرى من هونج كونج ودول أخرى.
وفق أرقام رسمية إثيوبية، حققت شركة الكهرباء الإثيوبية أكثر من ٢٢٠ مليون دولار في ٢٠٢٤-٢٠٢٥ من بيع الكهرباء لشركات التعدين الرقمي فقط، وهو رقم يفوق قيمة صادرات الكهرباء إلى السودان وجيبوتي وكينيا مجتمعين. بالنسبة للسودان، كل ميجاوات يُباع لتعدين العملات الرقمية هو ميجاوات لم تصل إلى مضخات مشروع الجزيرة أو محطات مياه الشرب في الخرطوم والولايات، مما يفاقم أزمة الطاقة في بلد يعاني انقطاعات تصل إلى ساعات يومياً.

تأثير التعدين الرقمي على السودان:
في صيف ٢٠٢٥، سجّلت محطات قياس المناسيب في الخرطوم ودنقلا أدنى معدلات تاريخية لبعض الأسابيع، بالتزامن مع ذروة تشغيل مزارع التعدين الرقمي شرق أديس أبابا. هذا التزامن يعكس ضغطاً حقيقياً؛ فزيادة توليد الكهرباء للتعدين الرقمي تتطلب احتجاز مياه إضافية أو تفريغاً غير منتظم للمياه، مما قلل تدفق النيل الأزرق بنسبة تصل إلى ١٥٪ في مواسم الجفاف، حسب تقارير منظمة الأمم المتحدة للمياه (٢٠٢٥).
هذا الوضع يُهدد الأمن الغذائي السوداني مباشرة، فمشروع الجزيرة، الذي يغطي ٨ ملايين فدان ويُنتج نحو ٧٠٪ من القمح والذرة، خسر حوالي ٢٠٪ من إنتاجه في ٢٠٢٥ بسبب نقص الري، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة ٣٠٪ في الأسواق المحلية. السودان، كدولة مصب، يتحمل ثمن “الفائض الطاقي” الإثيوبي دون مقابل، في وقت تُفاقم فيه الحرب التحديات الاقتصادية.

البعد الإماراتي:
جزء كبير من هذه الصفقات يمر عبر شركات ومستثمرين إماراتيين، ففي مايو ٢٠٢٥، وسّعت مجموعة Phoenix Group (شركة إماراتية مدرجة في أبوظبي) عملياتها في تعدين البيتكوين الإثيوبي باستخدام طاقة متجددة من سد النهضة، وفق تقرير منصة Arab Gulf Business Insight (AGBI).
كما أن شركة التعدين الرقمي Citadel Mining، المرتبطة بشركة مبادلة المملوكة لحكومة أبوظبي، استخرجت أكثر من ٦،٣٣٣ بيتكوين (قيمتها ٧٠٠ مليون دولار) حتى أغسطس ٢٠٢٥، بتمويل جزئي من شركة الكهرباء الإثيوبية.
أما G42، الشركة الإماراتية الرائدة في الذكاء الاصطناعي، فقد وقّعت شراكات للبنية التحتية الرقمية في إثيوبيا ضمن خطة ١ مليار دولار لتوسيع الذكاء الاصطناعي في أفريقيا، وفق بيانات صحيفة The National الإلكترونية الصادرة من الإمارات.
هذه الاستثمارات تأتي في سياق اتهامات للإمارات بتمويل مليشيا الدعم السريع في السودان، مما يجعل دعمها لمشاريع تُقلل من حصة السودان من مياه النيل أمراً مثيراً للجدل، ويُفاقم الشعور بأجندتها الخفية في السودان.

الخاتمة: الأبعاد الأخلاقية والسياسية:
السؤال لم يعد تقنياً أو اقتصادياً فقط، بل أصبح أخلاقياً وسياسياً: هل يجوز لدولة أن تحول مورداً مشتركاً إلى عملة رقمية تُباع للأجانب، بينما جيرانها يعانون الجفاف والجوع والحرب؟
السودان اليوم لا يطلب صدقة مائية، بل يطالب بحقوقه في مياه النيل التي تتحول أمام أعين مواطنيه إلى بيتكوين في خوادم رقمية خارجية، بينما ينظر المزارع السوداني إلى أرضه ويسأل: متى تأتي قطرة الماء التي بيعت لتعدين عملة رقمية لا يملكها؟
يجب على المجتمع الدولي، خاصة الأمم المتحدة، التدخل لفرض اتفاقيات عادلة حول سد النهضة الإثيوبي، قبل أن يتحول النيل إلى أداة للربح السريع على حساب شعوب الحوض.

مصادر مختارة:
• EEP Reports (2025)
• World Bank Ethiopia Overview
• AGBI (مايو 2025)
• The National (نوفمبر 2025)

اترك رد

error: Content is protected !!