التعبئة العامة والاستنفار الشعبي: طريق النصر(نحو رؤية وطنية شاملة لاستنهاض الدولة والمجتمع بعد سقوط الفاشر)

لقد وضعت الأحداث الجسام التي اندلعت صباح الخامس عشر من أبريل عام 2023م السودان أمام امتحانٍ وجوديّ غير مسبوق. فالحرب التي بدأت كنزاعٍ مسلّح أو محاولة انقلابٍ على السلطة، سرعان ما تحوّلت إلى أزمة وطنية شاملة تمسّ بنية الدولة، وتؤثّر في أمن المواطن، واستقرار الاقتصاد، ووحدة النسيج الاجتماعي.
وقد جاء سقوط مدينة الفاشر في الأسابيع الماضية ليشكّل نقطة فارقة وذروة جديدة في منحنى الصراع، إذ تحولت المدينة والتي رسمت عنوانًا للصمود على مدى أكثر من خمسمئة يوم إلى مسرحٍ لانتهاكاتٍ مروعةٍ بحق المدنيين من قبل مليشيا الدعم السريع والمرتزقة الأجانب. هذه الجرائم التي وثّقتها تقارير المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، وأثارت إدانات عالمية، كشفت للعالم حجم المأساة التي يعيشها الشعب السوداني وأهل دارفور بشكلٍ خاص، وأكدت أن المعركة لم تعد معركة مواقع فقط، بل معركة وجودٍ وكرامةٍ وهويةٍ وطنيةٍ.
في مواجهة هذا الواقع المأساوي المترامي، لم يعد القتال والسلاح وحده كافيًا لاستعادة زمام المبادرة، بل أصبح لزامًا إطلاق تعبئة وطنية عامة واستنفار شعبي منظم، بقيادة الدولة وبمشاركة المجتمع، لتمكين الأمة من الصمود وتحويل المحنة إلى فرصة لبناء قدرة وطنية جديدة تحفظ السيادة وتعيد الثقة في المستقبل.
التداعيات السالبة للحرب
أفرزت الحرب سلسلة من الأزمات المركّبة طالت كافة القطاعات، ويمكن تلخيصها في الآتي:
أزمة إنسانية واسعة ونزوح داخلي وخارجي غير مسبوق وبأعدادٍ كبيرةٍ مع تدهور أوضاع الإيواء والغذاء والصحة.
انهيار جزئي في الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والنقل والتعليم.
تدهور اقتصادي خطير تمثّل في انهيار قيمة العملة، تعطّل الإنتاج، انقطاع سلاسل الإمداد، وارتفاع معدلات الفقر.
ضعف أداء مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية والقضائية في ولايات عدة.
تفكك النسيج الاجتماعي وعودة النزعات القبلية والمناطقية إلى الواجهة.
تضرر المطارات والمستشفيات والمنشآت الحيوية و المستودعات الاستراتيجية وتباطؤ جهود الإنعاش والإعمار.
تراجع صورة الدولة خارجيًا وصعوبة جذب الدعم والتمويل.
تباطؤ استجابة الدولة والقيادة
رغم حجم التحديات واستمرار التهديدات، بدا واضحًا أن رد الفعل الرسمي اتسم بالبطء والتشتّت، ومن أوضح مظاهره:
غياب خطة وطنية موحّدة لإدارة الأزمة.
ضعف التواصل المؤسسي والإعلامي مع المواطنين.
غياب برامج فعّالة لتعبئة الموارد المدنية والقطاع الخاص.
ضعف التنسيق بين المستويات المركزية والولائية والمجتمعية.
إن هذا التباطؤ سمح بتوسّع الفجوات التي استغلّتها قوى داخلية وخارجية معادية، ما فاقم من كلفة استعادة الأمن والاستقرار لاحقًا.
مفهوم التعبئة العامة
التعبئة العامة هي عملية وطنية منظّمة لتحويل موارد الدولة والمجتمع—بشرية ومادية وإدارية—إلى وضع طوارئ منضبط يهدف إلى حماية الأمن القومي وصون الخدمات الحيوية.
تتم التعبئة ضمن إطار قانوني ودستوري واضح، وبقيادة مركزية، وبآليات تضمن احترام الحقوق والشفافية في إدارة الموارد.
خطوات عملية مقترحة للتعبئة العامة
تتركز اهم الخطوات العملية فى أي قرار للتعبئة العامة في الآتي:
إصدار قرار قانوني يحدّد نطاق التعبئة ومدتها وصلاحيات الجهات المنفذة.
تشكيل قيادة وطنية موحّدة تضم ممثلين عن الحكومة التنفيذية والقوات النظامية والولايات والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
جرد وطني شامل للموارد البشرية واللوجستية والطبية والإدارية وتحديد أولويات استخدامها.
تفعيل خطط قطاعية في مجالات الماء والكهرباء، الصحة، النقل، الغذاء، والاتصالات.
إطلاق خطة إعلام واتصالات وطنية موحّدة لتوجيه الرأي العام، محاربة التضليل، وإدارة المتطوعين.
تنظيم الاستدعاء المؤقت للكفاءات الفنية والإدارية لدعم الخدمات.
إرساء آليات شفافية ومساءلة مستقلة تراقب الأداء وتضمن ثقة المواطنين والشركاء الدوليين.
مفهوم الاستنفار الشعبي
الاستنفار الشعبي لا يعني الفوضى أو عسكرة المجتمع، بل هو تعبئة مدنية سلمية ومنظمة تستنهض قدرات المجتمع الأهلي والتعاوني والقطاع الخاص لمواجهة تبعات الحرب ودعم صمود الدولة. هو استنفار للوعي والعمل، وليس لانتشار السلاح غير المنضبط.
أهمية الاستنفار الشعبي
أن قيام الدولة بعملية الاستنفار يهدف لمرامي و غايات تخدم الغرض من هذه العملية، إن اهم ما تهدف اليه عملية الاستنفار الشعبي، الآتي:
تعزيز المرونة الوطنية وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
تفعيل المبادرات المحلية لتقديم الخدمات والإغاثة حين تعجز الدولة او تتعطل بعض أنظمتها.
تقوية الروابط الاجتماعية وتأسيس شراكات مستدامة بين المجتمع والسلطة.
بناء ثقافة حماية ذاتية مدنية تحافظ على السلم الأهلي وتمنع الانهيار المؤسسي.
آليات تفعيل الاحتياط والمقاومة الشعبية
جملة من السبل و الوسائل و الآليات يمكن ان تستخدمها الدولة لتفعيل الاحتياط و المقاومة الشعبية، منها:
أ. تفعيل الاحتياط الوطني:
يجب أن يكون نظام استدعاء قدامى العسكريين (المنتسبين إلى صفوف الاحتياط أو المتقاعدين الراغبين بالعودة) قائماً على قاعدة قانونية واضحة، وإجراءات مُنظَّمة تضمن الفاعلية والحماية القانونية والاجتماعية لكافة الأطراف. المقترح التنفيذي يشمل المراحل التالية:
إطار قانوني وتنظيمي: إصدار مرسوم أو قرار يحدد شروط الاستدعاء، الفئات المؤهلة (خبراء فنيون، كوادر هندسية ولوجستية، أطقم طبية، وحدات حماية مرافق) والمهام المسموح بها، مع استثناء صريح لأي مشاركة قتالية تتجاوز الأطر القانونية.
سجل احتياطي مُحدّث: استحداث قاعدة بيانات وطنية لقوائم قدامى العسكريين والمختصين الراغبين في المشاركة، تُحدّثها المحافظات وتتحقق منها جهات المعاشات والقوات المسلحة لتأكيد الهوية والكفاءات والخلفيات الأمنية.
آلية استدعاء مُنظّمة: استدعاء طبقي ومحدّد زمنياً وفق أولويات الاحتياجات — حماية مرافق حسّاسة، دعم لوجستي، إشراف على سلاسل الإمداد، وإدارة مراكز الإيواء — مع منح المستدعين إخطارات رسمية وحقوقاً مادية وتأمينية واضحة.
فحص وتدقيق سريع: فحوصات أمنية إدارية لضمان عدم إشراك عناصر مثيرة للمخاطر، والاطلاع على سوابق العقوبات والتأديب أو القضايا الجنائية.
تدريبات تكميلية مركزية: دورات سريعة تُركِّز على مهارات الحماية المدنية (إدارة الطوارئ، تأمين البنى التحتية، التنسيق مع فرق الإغاثة)، مع تأكيد القيود القانونية على الأدوار الميدانية.
هيكل تشغيل واضح: ربط المنتسبين الجدد بسلاسل قيادة مدنية/عسكرية مختصة (بصورة لا تُخلّ بالقيادة العسكرية المقاتلة)، وتحديد نقاط اتصال ولجان إشراف محلية تضمن الانضباط والالتزام بالقانون الدولي الإنساني.
حوافز وضمانات: تعويضات مالية، تأمين صحي، ضمانات وظيفية للموظفين الحكوميين الذي يعودون مؤقتاً للخدمة، وبرامج إعادة الإدماج بعد انتهاء مهمة التعبئة.
مراحل إنهاء الخدمة: إجراءات واضحة ومعلنة لعودة المستدعين إلى حياتهم المدنية أو العمل الرسمي بعد انتهاء المهمة، مع توفير دعم نفسي واجتماعي لمن خاضوا تجارب ضغط.
ب. استنفار المدنيين وتدريبهم لمهام دفاعية-مدنية:
يُمكن استغلال طاقات المجتمع المدني عبر برنامج تدريبي ممنهج يفتح المجال لمشاركات مدنية آمنة وقانونية:
تحديد الأدوار المسموح بها: إشراف على نقاط تجمع النازحين، فرق إسعاف أولي، مراقبة ونقل المعلومات عن الأضرار والبنية التحتية، دوريات مدنية غير مسلحة للحماية المجتمعية، وإدارة نقاط التوزيع.
معايير اختيار وتسجيل: تسجيل المتطوعين وفق هويات واضحة، مع فحص خلفيات أساسي، والتزام بتعهدات قانونية بالامتناع عن الأعمال العدائية.
برامج تدريب مرنة: وحدات قصيرة تعليمية (إسعاف أولي، إدارة مخيمات، مكافحة الحرائق البسيطة، تفعيل أجهزة الاتصال والطوارئ، مهارات التوثيق والإبلاغ)، تُنظمها مؤسسات مدنية معتمدة بالتعاون مع وزارات معنية.
حماية قانونية واجتماعية: منح المشاركين حقوق تأمينية وتعويضية عند الإصابات، وضمانات قانونية تحد من التعرض للمساءلة إذا ما عملوا ضمن الأدوار المصرّح بها وتحت إشراف جهات حكومية.
تنسيق وتشغيل مشترك: دمج الخلايا المدنية في هيكل قيادة التعبئة عبر مراكز إقليمية تُنسّق المهام مع القوات النظامية والسلطات المحلية لتجنّب التعارض والازدواجية.
بناء آليات الرقابة: لجان مدنية وممثّلون عن منظمات حقوق الإنسان لمراقبة أداء المتطوّعين والتأكد من احترام الحقوق وعدم تحوّل المبادرات إلى جهات مسلّحة.
خطة انتقال: آلية واضحة لانسحاب المتطوعين المدنيين عند عودة الاستقرار، مع برامج تدريب مهني تضمن اندماجهم في برامج إعادة الإعمار أو سوق العمل.
الهدف من هذه الآليات: تحرير القوات المقاتلة للتركيز على العمليات العسكرية الضرورية، بينما يقوم قدامى العسكريين والمدنيون المؤهلون بأدوار دعمية مدنية-أمنية خاضعة لقواعد القانون والرقابة، بما يعزّز الفعالية ويقلّل مخاطر الانزلاق إلى عسكرة المجتمع أو انتهاك الحقوق.
المقاومة الشعبية المشروعة
وهي مقاومة مدنية سلمية ودستورية، تتجلى في شبكات الإغاثة والتطوع، حماية المجتمع المحلي والإسناد الطبي والإيوائي، حملات المقاطعة القانونية ضد القوى المخرّبة، وحراك وطني توعوي لمناهضة التضليل الإعلامي وكشف التآمر الخارجي.
التنظيم العملي للتعبئة والاستنفار
من التجارب العملية، يتلخص التنظيم العملي للتعبئة و الاستنفار في ما يلي:
هيكل قيادة وطنية تتفرع منها لجان قطاعية وولائية.
قواعد تشغيل وبروتوكولات واضحة للتجنيد، التدريب، التعويض، والرقابة.
منصة مركزية للمعلومات تُدار منها قواعد بيانات المتطوعين والاحتياجات.
برامج تدريب عاجلة على الإسعاف، إدارة المخيمات، وصيانة المرافق.
شراكات فورية مع القطاع الخاص لضمان استمرارية سلاسل الإمداد.
لجان مراقبة مستقلة لمنع الانتهاكات وضمان الاستخدام الرشيد للموارد.
أسباب الدعوة للتعبئة الآن
بعد سقوط الفاشر يتجلى الدافع وطني والبعد الإنساني فى اوضح صوره، إنّ ما جرى في مدينة الفاشر لا يمكن النظر إليه كحادثٍ عابرٍ في مجريات الحرب، بل هو نقطة تحوّل أخلاقي وإنساني تستدعي من الدولة والمجتمع التحرك بكل الوسائل المشروعة. فقد وثّقت منظمات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان انتهاكات جسيمة ضد المدنيين: من القتل الجماعي، والنهب الممنهج، والاغتصاب، وتدمير المستشفيات ودور العبادة، إلى محاصرة النازحين ومنع وصول الإغاثة.وقد صدرت تقارير موثّقة من الأمم المتحدة _ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية_ (أوتشا OCHA)، وهيومن رايتس ووتش، وأطباء بلا حدود، وثّقت هذه الجرائم ودعت للتحقيق والمساءلة.
هذه الوقائع — التي أصبحت حديث العالم — تؤكد أن غياب التعبئة الوطنية وترك المدن دون خطوط دفاع مدنية ولوجستية منظّمة هو ثغرة استراتيجية وإنسانية قاتلة. ومن هنا تأتي ضرورة الانتقال الفوري من رد الفعل المحدود إلى تعبئة شاملة تحفظ الأرواح، وتعيد للدولة زمام المبادرة، وتمنع تكرار الفاشر في مدن أخرى.
لقد شكّل سقوط الفاشر حدثًا مفصليًا كشف هشاشة منظومات الحماية المدنية، وضرورة الانتقال من رد الفعل إلى الفعل المنظّم. فالتعبئة اليوم ضرورة لملء الفراغات الأمنية والإنسانية، وتأمين الممرات الحيوية، ومنع تكرار الكارثة.
كما أن هناك قوى خارجية دولية و إقليمية تسعى إلى توسعة دوائر التآمر واستثمار الفوضى لتفكيك الدولة السودانية من الداخل. لذا فإن التعبئة الوطنية المنسقة هي الأداة الوحيدة لإغلاق الثغرات التي ينفذ منها التآمر، وتحويل الضعف إلى قوة مناعة داخلية.
ملامح التعبئة والاستنفار عبر القطاعات
للتعبئة و الاستنفار ملامحها و مظاهرها و التي تتلخص في التالي:
اقتصاديًا: حماية سلاسل الإمداد، دعم الصناعات الحيوية، إنشاء صناديق طوارئ، وضخ تسهيلات ائتمانية.
إعلاميًا: حملة وطنية موحدة لمحاربة الشائعات، نشر التوجيهات الرسمية، وتوعية المواطنين.
أمنيًا/عسكريًا: تفعيل الاحتياط في مهام الحماية والدعم اللوجستي تحت إشراف قانوني.
سياسيًا: إطلاق حوار وطني شامل وضمان الشفافية في إدارة موارد الطوارئ.
الثغرات التي تسدها التعبئة
كذلك فإن عمليتي التعبئة و الاستنفار الشعبي تسدان ثغرات كبيرة في بنية الدولة و المجتمع مثل العجز المركزي عن الاستجابة السريعة، نقص الكوادر الفنية في مناطق النزاع، تعطّل شبكات التوزيع والخدمات، وضعف الحماية المدنية والمجتمعية.
النتائج المتوقعة من التعبئة المنضبطة والمسؤولة
و بلا شك، فأن هناك نتائج مرجوة و متوقعة من هذه الاجراءات و التدابير مثل تقليل الخسائر الإنسانية والمادية، الحفاظ على الخدمات الأساسية ومنع الانهيار الشامل، استعادة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، بناء شبكة وطنية من المرونة والصمود المجتمعي، وتأسيس قاعدة صلبة لإعادة الإعمار والانتعاش الاقتصادي.
إن التحدي أمام السودان اليوم لم يعد في استمرار الحرب فحسب، بل في القدرة على إدارة ما بعدها، وفي حماية المجتمع من الانهيار الأخلاقي والإنساني الذي تجلّى في مأساة الفاشر.
إن التعبئة العامة والاستنفار الشعبي المنظّمين يمثلان طريق النصر الحقيقي؛ فالنصر لا يُقاس بحجم و اعداد العتاد و السلاح، بل بمدى قدرة الأمة على حماية مواطنيها وصون مؤسساتها وإعادة بناء ذاتها بإرادة موحّدة.
إنّ ما حدث في الفاشر جرس إنذارٍ ونداء وطنٍ جريح يدعو أبناءه إلى الاصطفاف، كلٌّ في موقعه، تحت راية القانون والدولة، لصون الوطن من التفكك والانهيار.
إنها لحظة تاريخية لاستنهاض الإرادة الوطنية، وتوظيف كل طاقة بشرية ومادية في معركة الوجود والكرامة. ومن رحم الصمود المنظّم تُولد بدايات النهوض، ومن عبق المعاناة تُصاغ ملامح وطنٍ جديد ينهض أقوى، وأصدق، وأقدر على مواجهة المستقبل.
السبت الأول من نوفمبر 2025م



